جاد الغيث |
إنه الثاني عشر من شباط 2014، قصف متواصل لا يهدأ على الجزء الشرقي من مدينة حلب، المشفى الذي أعمل به أنام فيه، فأنا طبيب جراح وقد اُستدعى لغرفة العمليات في أي لحظة.
أمضي يومي وليلتي بين الجثث والأشلاء، تصافح عيوني وجوه عشرات الجرحى يوميًا، منهم من يصبح شهيدًا ويمضي مع أهله إلى مثواه الأخير، ومنهم من يخرج بعد أيام بساق مبتورة، أو وجه مشوه، أو عاهة دائمة، وقد يخرج البعض معافى يسير على قدميه.
بعض الجرحى يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي، وبعض الشهداء ليس معهم أحد يلفون بقماش أخضر وينتظرون من يتعرف عليهم عند باب المشفى حيث الجو أكثر برودة.
خزان الماء في المشفى لم يبقَ فيه إلا القليل، وضخ الماء يحتاج للكهرباء، معظم غرف المشفى بلا إضاءة، فالمولدة تعمل بربع طاقتها توفيرًا للوقود.
المولدة الضخمة تحتاج للوقود، حتى تولد الكهرباء اللازمة لجميع غرف المشفى، لا يوجد مازوت، ولا حتى في السوق السوداء، والسبب وجود أزمة محروقات كبيرة عانت منها مدينة حلب وقتها.
توقفت الاتصالات عبر شبكة الجوال نهائيًا، ولا يوجد إنترنت أيضًا؛ لأن فالأنترنت الفضائي في المشفى توقف عن العمل كأنه يؤازر الاتصالات والكهرباء والماء.
أصعب مهمة الآن هي البحث عن المازوت، فالمولدة يجب أن تعمل، وفي حال انقطاع الكهرباء يعني توقف أجهزة غرفة العمليات عن العمل وهي الغرفة التي لا تهدأ على مدار الساعة تستقبل الجرحى والمصابين من السادسة صباحًا حتى منتصف الليل.
في هذه الأجواء المأساوية لم يعد الحصول على الخبز بالأمر السهل أيضًا، فالنقص الحاد في مادة الطحين أوقع المدنيين في مأساة إضافية تضاف إلى مآسيهم.
الناس يقفون طوابير تبدو بلا نهاية أمام الأفران للحصول على ربطة واحدة من الخبز فيها عشرة أرغفة فقط.
في الشوارع الرئيسة للمدينة بدأت تنتشر بسطات تبيع (خبز الصاج) الذي يعتمد على الحطب؛ لأن جرة الغاز وصلت إلى سعر خيالي تجاوز 8000 ليرة سورية.
كل هذا العذاب في كفة وتأمين المازوت في كفة أخرى، بدأت مع سائق سيارة الإسعاف رحلة البحث عنه عند المعارف والأصدقاء، لعلنا نجد ما يسد حاجتنا ولو ليوم واحد، تنقلنا في حلب الشرقية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، العبوة التي تتسع لخمسين لترًا راحت تمتلىء رويدًا رويدًا، كنا أشبه ما نكون بمن يبحث عن ماء الحياة، أو قطرات دم تنقذ حياة جريح ينزف.
العبوة الثانية تتسع لخمس وعشرين لترًا، تكاد تمتلىء ونحن في زيارتنا الأخيرة لصديق يعيش في حلب القديمة، أفرغ المازوت من خزان المدفأة الصغير جدًا في علبتنا التي شعرت كأنها ترقص فرحًا، فكل نقطة مازوت إضافية ستمنح الحياة للمشفى المنكوب وتعطي فرصة أكبر للجرحى والمصابين بأن يعيشوا بسلام نسبي مؤقت ولو لساعات قليلة.
كُلنا يعلم أن توقف بعض الأجهزة قد يوقف حياة جريح أو مصاب في غرفة الإنعاش، واستمرار الأجهزة في العمل مرتبط بتدفق المازوت إلى بطن المولدة الكبير الذي لا يشبع، صورة غريبة تجعلنا نقف أمام ضعفنا وعجزنا مستسلمين لمشيئة الله وقدرته العظمى، فالطحين تارة هو الحياة، والكهرباء حينا آخر، والآن المازوت هو أهم شيء لاستمرارنا في جو مليء بالقصف والرعب.
الكل يصارع للبقاء حيًا، من هم داخل المشفى يصارعون الآلام، وبعضهم ينتصر على الموت، بعض الأطباء والممرضين يبحثون عن المازوت، وبعضهم في غرفة العمليات، والناس خارج المشفى في طوابير الخبز تتحدى القصف والذعر.
واليوم يتجدد شتاء شمالنا المنكوب بالتزامن مع عمل عسكري في منابع النفط ومصدر الوقود شرق الفرات، الغاز نفذ من الأسواق، والمازوت ارتفعت أسعاره بشكل جنوني، وبدأ الصراع لأجل الحياة المُتجدد منذ أعوام باختلاف الأماكن والظروف. ربما المازوت والوقود لا شيء إذا علمنا أن أشجار الزيتون ماتزال مأوى العوائل النازحة منذ أشهر، ليصبح تأمين المأوى اليوم تحت سقف يقي زمهرير الشتاء، أشد حاجة من أكسير المازوت وغلائه بل حتى فقدانه.