جاد الغيث |
الساعة الواحدة ليلاً ، البرد يقص المسمار ، ربما أشعر بذلك لأنني مِتُّ منذ سبع ساعات فقط، لا أذكر تفاصيل موتي بدقة، كل ما أذكره أنني كنت في طريقي إلى البيت قبل المغرب بقليل أحمل معي بضع أرغفة من الخبز صنعته عمتي العجوز بما تبقى لديها من طحين محاصر مثلنا تمامًا.
كانت الأيام أشد مرارة من العلقم مرارة في أواخر تشرين الثاني 2016 ، قصف لا يتوقف ونزوح لا يهدأ، كانت حلب الشرقية تلفظ أنفاسها الأخيرة، أسمع صوت طائرة حربية كأنها فوق رأسي، لا ألقي لها بالاً، أتابع طريقي ولساني وقلبي يلهجان بالدعاء، يارب سلم، يارب سلم.
شيء حاد جدًا وحار يخترق صدري، أرتمي أرضًا وتتبعثر الأرغفة ، يسيل دمي حارًا أيضًا، بعدها أغيب عن الوعي ولكن سمعي مازال يلتقط أصوات المفزوعين الراكضين بغير هدى في كل اتجاه، غبار كثيف يكاد يخنق كل شيء حولي، وبالكاد أكاد أسمع أحدهم ينادي: ” شهيد يا شباب.. يا شباب شهيد”
عرفت أنه يقصدني أنا، أنا دون غيري من الشهداء حولي، لا أعرف كم كان عددهم، فقد توقف قلبي وتجمدت عروقي وصارت روحي كغيمة صغيرة ناصعة البياض ترفرف فوقي.
حملني شابان إلى المشفى الوحيد في حلب الشرقية، كنت قريبًا جدًا منه، مشفى القدس الذي كتب له أن يشهد أقسى ساعات الوداع للأحبة الذين ماتوا هنا بمفردهم بينما سيغادر أهلهم مكرهين بعيدًا عن حلب بعد تهجير سكانها عنوة.
في المشفى كان سريري البلاط الملطخ بدم شهداء قبلي، بلاط بارد قاسٍ.
لا أدري بعدها كم مر من الوقت لأجد نفسي عاريًا تمامًا، يلفني كيس بلاستيكي أبيض مزود بسحاب طويل،
لم يسأل أحد عن اسمي، كنت أود أن أصرخ: “أنا أنس، أنس الباشا، هل عرفتمومي؟ هل سمع أحدكم بإسمي يومًا؟ هل يعرف أحد بيتي؟” ولكن من يسمع صوت ميت يصرخ؟!
تمر الساعات بطيئة صعبة مليئة بالأنين والنزيف، وألوان الغيوم المبهجة التي لا يراها سوى الموتى، لكل شهيد غيمة ترفرف فوقه، يختلف لونها وحجمها من شهيد لآخر، صار الممر الطويل للمشفى يغص بالغيوم الملونة.
من بين تلك الغيوم لمحت وجه زوجتي، لقد عرفت باستشهادي وجاءت لتودعني، سأراها لآخر مرة، والدها برفقتها، يفتح سحابات الأكفان البلاستيكية وينظر في وجوه الشهداء متفحصًا: “ليس هو، ربما يكون هذا،
لا ليس هو، ربما هذا، لا ليس هو، وأخيرًا هذا أنا.”
مازال وجهي أبيض وغيمتي بيضاء، فتحت زوجتي سحاب كفني، نظرت إلي كنت أبدو كالنائم نومًا عميقًا وعلى وجهي ربع ابتسامة، كأن روحي عادت إلي، ولكن صوتها وهي تهزني وتبكي بحرقة أماتني مرة أخرى، كانت تقول:
“فيق يا أنس، يا أنس فيق، فيق ياروحي ياعمري، فيق لاتتركني وتروح، فيق يا أنس.” تهزني وتكرر كلماتها بلوعة ورجاء وحرارة: “يا أنس فيق، فيق يا قلبي.”
بعدها تجهش بالبكاء، تدخل غيمتي في سماء غيوم أخرى حولي، يضيع صوتي، تختنق حروفي، يغلق والد زوجتي سحاب كفني، هذا آخر عهدي بالدنيا، وهذه آخر كلمة سمعتها: “فيق …فيق”
في العالم الآخر كان الصوت مختلفًا هذه المرة، ليس صوت زوجتي، لعله ملك يوقظني في عالمي الجديد!
كأن يدًا تهزني، وصوتًا يحثني على أن أفتح عيني من جديد وأصحو “فيق …فيق..”
ما أروع وأجمل ما رأيته بعد ذلك! لا تتسع الكلمات لوصف ما حولي من نعيم، لا أدري كيف راح لساني يردد من سورة يس: ” قيل ادخل الجنة، قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين” .