جاد الحق |
قبل الثورة كنت أخجل أني من سورية، وأشعر بالدونية والصغر مُطلقًا زفرات حسرة وألم وأنا أقارن بلدي ومجتمعي مع بلدان ومجتمعات أخرى.
بعد الثورة السورية المباركة، تغير هذا الشعور للنقيض، والفضل بعد الله هو لتلك الثورة وذاك الشعب البطل الذي قام بها.
الثورة التي تم التآمر عليها من الجميع، باتت شماعة الحكومات الديكتاتورية الراغبة بتربية شعوبها فينا، لكن صمود السوريين في بلدهم جعل السحر ينقلب على السحرة حتى أُلقوا ساجدين صاغرين، وأصبحت الشعوب المتمردة هي من تُربي الحكومات المستبدة فينا، وصار الشعب السوري الثائر أيقونة للشعوب المناضلة، وقدوة للشعوب المتحررة رغم هذا السيل المستمر، تسع سنين من المصائب المنوعة ومع ذلك بقي السوريون الأباة صابرين محتسبين متمسكين بقيمهم ومبادئ ثورتهم.
أحترم كل تحركات الشعوب رغم الاختلاف بين شعب خرجت ثورته من مساجده وحاراته، وشعب آخر كانت مظاهراته مسرحًا للرقص والغناء والفكاهة.
أدرك تمامًا الاختلافات الثقافية بين الشعبين، والأسباب الدافعة للثورة عند كليهما، وأدرك دور الإعلام في تنميط حراك لبنان ووسمه بطابع معين قد لا يكون يمثل كل الشعب.
لا شك أن ثورتنا لو كانت غناء ورقصًا وطربًا كانت أريح وأبهج، لكن وجهة نظر أخرى تقول: إن العظمة تصنع من الألم، وهل يتمايز النبلاء إلا بالبلاء؟
كلنا ينزع للمثالية، وترتاح نفسه للسهل، لكن قضية بخطورة ثورة شعب مظلوم على نظام سياسي ظالم ليست إطلاقًا أمرًا مثاليًا، ولا تسلية سهلة، والتاريخ هو الحكم الفيصل بين خصمي كلامي، وعلينا نحن الشعوب العربية أن ندرك يقينًا أن هذه الأنظمة بأدواتها المختلفة وأولها الجيوش ليست من جلدتنا، بل هي أشد تنكيلاً بنا من دول الاحتلال الأجنبي التي خرجت وتركتها تجرم فينا نيابة عنها وتسومنا سوء العذاب، وتبقينا بشكل غير مباشر ذَنبًا للاحتلال الراحل الباقي، ومزرعة له.
محرم علينا حرمة الأم على ابنها، والأخ على أخته أن نختار من يحكمنا، ولو اتخذنا كل قيمنا الدينية والمجتمعية ظهريًا، واتبعنا ديمقراطية الغرب وقيمه فلسفة وممارسة شبرًا بشبر، لأن الشعب إن تُرِكَ حرًا لن يختار إلا من يحقق مصلحته، وتحقيق مصلحة الشعب يعني لزامًا محاربة مصلحة الاحتلال، فهاتان المصلحتان نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولا بد أن تغلب إحداهما الأخرى وتقهرها، ولنا في شهيد الديمقراطية مرسي عبرة، وأظن أن تُعاد الكرة في تونس، وبرعاية من أفاعي دول الظلام، وعقارب الثورات المضادة، وفلول المطرودين.
فكرة جميلة أفادني بها أستاذي وأخي الأكبر الشيخ (محمد أبو النصر) في نقاش بيننا أودُّ مشاركة القرّاء بها، وهي أن الثورات العظيمة باهظة الثمن حين تشتبك أحداثها وتتوالى أزماتها، تكثر فيها لطميات الندم والحنين لفترة “كنا عايشين” فتسمع بها كثيرًا معزوفات “توبة عاللي بعيدها” و “يا ريت لا طلعنا ولا تبهدلنا” وكنا بطاغية صرنا بألف، لكن حين يأتي موسم حصادها، ويصير وقت قطاف ثمارها الشهية، وقتها يدرك أبناؤها أنها تستحق ما ضحوه لأجلها، وتبدأ كلمات المديح والثناء وكتابات الإطراء والتبجيل، وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية التي استمرت طويلا ًحتى تمخضت أخيرًا عن جمهورية فرنسا القوية، التي لم تكن لتوجد لولا مآسي الثورة، فمن يقرأ أدبيات عصر الثورة سيجد روح التشاؤم والندم عند أغلب كتاب ذلك العصر، باستثناء المؤمنين حقًا بفكر الثورة، بسبب ما شاهدوه من كوارث وأحداث مؤلمة بها، أمَّا من يقرأ أدبيات من أتى بعدهم في عصر الانتصار وقطف الثمار سيجد عبارات الإطراء والثناء والتفاؤل لِما لمسوه من آثار إيجابية لها بعد مخاضها الموجع.
أفخر أني ابن ثورة، أهدافها الحرية والكرامة لكل السوريين، صاغت أمجادها دماءُ الشهداء وزفرات الثكالى ودموع الحرائر وصبر المهجرين ورصاص الثوار وإرادة الأحرار على إكمالها حتى النصر القريب بإذن الله.