جاد الغيث |
في مساء بارد قليلاً ليوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2019، سحبت الشمس نورها البرتقالي بشكل تدريجي، كان مشهد الغروب مدهشًا رومانسيًا. هنا في قلب مخيمات (قاح) في ريف إدلب الشمالي حيث ما يقارب نصف مليون نازح وصلوا تباعًا على مدار تسع سنوات مضت من جميع أنحاء سورية المهجرة والجريحة.
هنا نادراً ما يرفع أحدهم بصره للسماء، فالكل مشغول بالأرض والسعي في مناكبها، لكن قريباً من موعد صلاة المغرب كان صوت صاروخ محمل بالقنابل العنقودية سيسقط فوق خيامهم، وحينها كل من رفع رأسه عالياً كان منشغلاً بسحر اللون الأرجواني ولم يخطر ببال أحد أنه صاروخ أُطلق لأجل قتلهم، حيث إن النازحين اعتادوا أن تكون خيامهم بقرية (قاح) الحدودية مع تركيا بمأمن عن القصف وأهواله، فهي من المناطق الأكثر أمنًا والأكثر اكتظاظًا بالناس الذين تركوا كل شيء خلفهم ورضوا بشظف العيش في خيم بلاستيكية لا تقي من برد ولا تحمي من حر، فيها فرش بسيط مكوَّن من بضع إسفنجات مستطيلة للنوم والجلوس، وبضع أدوات للمطبخ، ووسائد وأغطية، بالإضافة إلى أكياس سوداء كبيرة محشوة بالملابس وأشياء أخرى ضرورية، وبرميل ماء صغير بجواره لوح طاقة شمسية مستعمل مع بطارية للشحن في أواخر أيامها.
أما المغاسل والحمامات فهي مشتركة بين العائلات التي اعتادت ذلك، وألفت أن تسمع أصوات صغارها وكبارها في حال الرضا أو حال الغضب.
كأن كل هذا الشقاء لم يكن كافياً بالنسبة إلى نظام الأسد الذي هجَّر الأبرياء ودمَّر بيوتهم وسلب أرزاقهم! الآن يحلو له أن يقصفهم في خيمهم البائسة ليزيد وجعهم وأجرهم، ويرفع من مستوى إجرامه ودمويته إلى أقصى حد عرفته البشرية على مر العصور.
كنت شاهدًا قريباً جداً على الحدث، ليس مهمًا أن تعرفوا اسمي، فأنا موظف في فريق الدفاع المدني، قد أتحول إلى شهيد إذا عادت الطائرة الحربية لتقصف من جديد، وصلت المكان حيث كانت الخيام تشتعل وألسنة النار تأكل كل شيء تطاله، وعويل النساء والأطفال وحتى الرجال يشق الصدور ويجلب القهر، لكن الناس كانوا كخلية نحل، شباب يحملون الأطفال المصابين، وآخرون يساعدون في إخماد الحريق، وسيارات الإسعاف تنقل الجرحى إلى مشفى أطمة أو مشفى باب الهوى، وأصوات متداخلة ووجوه يكسوها الغبار الأسود، وعيون متيقظة تبحث عن ناجين، وآذان ترهف السمع لعل هناك أنين بين هذه الأصوات يطلب النجدة.
كنت أركض بين الخيام، وإذ بي أدوس على قطة أحشاؤها ممزقة، لم تسلم حتى القطط من شظايا الحقد والكراهية، وهناك ثلاثة أطفال متشابهون لا شك أنهم إخوة، ثيابهم ممزقة وعلى ووجوههم دماء، كانوا ثلاثة شهداء تبكيهم أمهم، ويقرأ أبوهم فوق رؤوسهم آيات من القرآن، يغلبه البكاء فيصمت حينًا ثم يشد من عزمه حينًا آخر ويتابع ترتيل القرآن وهو مغمض العينين ومن بين دموعه يرى أطفاله الثلاثة يحلقون في جنة عالية.
كاميرات الإعلاميين تلتقط الصور، وكثير منهم تركوا كاميراتهم جانباً وأسرعوا في نقل الجرحى، أحدهم يحمل حقيبة طبية أخرج منها شاشًا أبيض وراح يضمد ساق جَدة عجوز تبكي قهرًا وفزعًا ولسانها لا يتوقف عن قول (حسبي الله ونعم الوكيل).
ألسنة النار بدأت تهمد، والأصوات بدأت تنخفض، مرت حتى الآن أربع ساعات أشعر فيها أنني أكاد أسقط أرضًا، ارتطم كتفي بعمود حديدي كان يسند خيمة، جثوت على ركبتي وأنا أكاد أختنق من رائحة الدخان الممزوج برائحة الدم، وكاد يُغمى عليَّ حقًا، وأنا أسمع من صديقي: “وصل عدد الشهداء إلى 16 شهيدًا بينهم 8 أطفال و 6 نساء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى، ومعظمهم في حالات حرجة” وفي ذات اللحظة تذكرت أن اليوم يُصادف عيد الطفل العالمي وأنا في خضم المجزرة التي استشهد فيها أطفال وجرح آخرون، فكل عام وأطفال سورية في يوم عيد الطفل العالمي بخير!