محمود العمريخرجت تلك المرأة الخمسينية من بين ركام منزلها المدمَّر في حيٍّ من أحياء حلب بلباسها المصبوغ بالبياض، بوجهها الشاحب المصفرّ الذي تزينه تلك الجروح والكدمات، بيدين ترتعشان، وقلب خافق، وعينين تبكيان لا جبنا ولا خوفا، لأنَّهما قد قُتلا فيها مذ رضيت بأن يُكتب عليها التحدي، وكأنَّك لتحسبها ذلك الملاك الطاهر الذي يخرج من تحت الركام ليضيف على الأجواء مسحته الإيمانية، وقد غدت بطلة من بطلات هوليود، ومن بطلات هوليود أمامها؟ فهنَّ يبكينَ لكسب المال، وهي تبكي لأنَّها خسرت الأهل والمال، هنَّ خسرن الشرف والعفَّة، وهي صارت رمزا لهما، لكنَّها قد بكت البكاء الفطري الذي زُرع فيها، إنَّه بكاء الفراق والمحبة، وبكاءُ الوفاء والذكريات الجميلة، إنَّه الخوف على من لم يخرج من عائلتها، إنَّه البكاء حزنًا على من فقدت، وقد أُخبرت باستشهاد زوجها وأحد أولادها، إنَّه بكاء الفطرة السليمة. لو قُدِّر للصبر حينها أن يكون بشرا لما كان إلا هي تلك الساعة، بعد كل هذا أعادت الوقوف ثانية وتهيأت للقول كأنَّه يوحى إليها شيء ما! كأنَّها استلهمت من الثكالى أمثالها معاني لا يستشعرها إلا هنَّ، ولا يتذوقها إلا أمثالهنَّ، فاستجمعت قواها لتنطق بذلك الشعور الذي تشعر به، فغدت حينها الشاعرة الملهمة، تخطُّ في الحياة حكمتها، وتصوغ من المعاناة آلامها، وتختار من المعاني أجملها، فقالت متجاوزة بذلك بحور الشعر وضوابط العروض: (إن مات زوجي، فإنَّ لي بالله قوة، وإن مات ولدي فلي في الجنة حظوة، وإن هُدم منزلي فمنزل في الجنة خير لي) ووو… وهنا عند هذه المعطوفات أُغمي عليها ولم تكمل، وليتها أكملت هذه الصورة البديعة التي صاغتها ببعض الكلمات التي يعجز عنها كاتب يمضي ليلته بجمع المفردات وبنخل الجمل؛ ليصوغ شيئا كهذا الذي صاغته هذه المرأة، هذه المرأة لم تتخرَّج من جامعات هارفرد وشيكاغو، ولم تتعلم في معاهد السوربون، لكنَّها تخرَّجت من جامعة اسمها الحياة، ففهمت عن الحياة مغزاها ونواميسها، وعرفت أين هي، وأين ستمضي، وإلى أين المصير، فانزوت الدنيا في عينيها فكأنَّها لتراها كوخًا صغيرًا، وعلمت أنَّ مُتع الدنيا وملذاتها ما هي إلا وقت قصير، فهي راضية بما قسمه الله لها شاكرة له، فالتجأت إلى الله العلي القدير، واستقوت بمن لا يقهر، واستعلت بمن لا يذل، بعد ذلك أرسلت الرسائل الإيمانية مشجعة ومعزية لغيرها من الثكالى، بأنَّ لقائهنَّ بمن فقدنَ ليس ببعيد، وأنَّ منزلها وإن هُدم، فمنزل الجنة ذلك خير، وكأنَّ لسانها من ألسنة الدهر الناطق، كأنِّي بها تقول: (وما عند الله خير وأبقى) كل هذا الكلام استطاعت أن تختصره بثلاث جمل قصيرة! إنَّها امرأة من بلادي.