جاد الغيث |
ولدت مع الساعات الأولى للفجر في حي الجلوم، في بيت عربي صغير تتوسطه بركة ماء خاوية وشجرة نانرج ماتزال أوراقها خضراء.
حلب الشرقية ماتزال تتلوى ألمًا من أوجاع القصف والحصار، وحلب القديمة منهكة، بيوتها تكاد تهوي أرضًا في أي لحظة.
أول ما أبصرته عيناي سحائب دخان أسود ويد أختي (حلا) الضعيفة وهي تحشو ما يشبه المدفأة بالملابس المهترئة والأحذية البالية وبقايا حطب.
كنت أبكي بشدة، فقد خرجت من ظلام إلى ظلام، ومن حصار بطن أمي الذي دام تسعة أشهر إلى حصار جديد لا أعرف متى ينتهي.
سمعت أبي يهنئ أمي بسلامتي، وكانت ابتسامته حزينة باهتة، فهربت من عينيه دمعتان: إحداهما كانت كأنها قطرة حليب، والدمعة الأخرى كأنها قطرة دم.
في بطن أمي لم أعرف معنى الجوع، ولكن بعد ولادتي رفض ثدي أمي أن يدر حليبه لي، حينها عرفت معنى دموع أمي وقهر أبي.
إخوتي الصغار كانوا يأكلون خبزًا مرشوشًا ببعض الزعتر دون زيت، وفي حينها سمعت معدتي تقرقر جوعًا ورحت أبكي على أيام تنتظرني يبدو أنها ستكون أيام جوع وألم!
كان أبي يروي لأمي كل يوم حكايات جديدة كأنها من نسج خياله، لكنها حقيقية موجعة أبطالها بشر حقيقيون من لحم ودم ومشاعر لم يبقَ لهم شيء سوى برد وخوف وقصف ودمار وانتظار.
انتظار فك الحصار الذي دخل شهره الرابع، وثدي أمي لا يجود إلا بالقليل من قطرات الحليب، الكل ينتظر معركة فك الحصار عن حلب الشرقية ويحلم من جديد بسحائب دخان أسود تغطي السماء من أثر دواليب مطاطية يجمعها الأطفال والشباب تحترق لتشوش على الطيران الحربي وتجعل أهدافه غير محققة.
تحتاج أمي للخضار والفاكهة واللحم، صار جسدها هزيلاً وهي دائمًا متعبة وأحتاج أنا لطاقة نجاة وجرعة بسيطة من أمل تجعلني أرى الحياة بوجه أفضل وأجمل.
كم أشتاق لرؤية وجه أمي وأبي وهما يضحكان من قلبهما وإخوتي يلعبون في صحن الدار ولا يشتكون من الجوع والخبز المجفف المكسو بالعفن واليأس.
سأنمو وأكبر أم سأموت؟ سؤال يلح عليَّ في كل ساعة، ومع صوت كل طائرة حربية أو قذيفة أو شظية.
أتمسك بالحياة، فأنا أريد أن أرى أكثر وأسمع قصصًا وحكايات مفرحة قادمة، أود أن أعيش لأجرب كل شيء جربه أبي، لكن الكثير من الأطفال يقتلون كل ساعة، وكل يوم في نشرات الأخبار أرى أطفالًا بين الأنقاض وأطفالًا يصرخون والدماء تسيل من وجوههم البريئة المعذبة وأطفالًا أصبحوا بلا أم وبلا أب.
كم تبدو قاسية هذه الحياة، ليتني لم أخرج إليها، هل كان ممكنا أن أبقى في بطن أمي مغلق العينين مستسلمًا للهدوء ومستمتعًا بصوت ضربات قلب أمي التي تعني لي كل الحياة، وخائفًا من فزعها ليلاً وهي تصحو فجأة على صوت قذيفة قريبة فتتلمس بطنها كأنها تقول لي: “لا تخف ياعزيزي، سيكون كل شيء بخير قريبًا.”
ولكن متى ستحلو الحياة في عيني؟ وكيف سأمضي أيامي القادمة؟ هل سألحق بقافلة الأطفال الشهداء التي يزداد عددها يوما بعد يوم؟ أم سأغدو يتيمًا يعيش في بيت أحد أقاربه أو في دار للأيتام؟ أم ربما أفقد ساقي أو يدي أو ربما تشوه قنبلة وجهي؟
كل هذا حدث لأطفال سورية وأنا طفل رضيع أكتب إليكم بفيض من خاطري الحزين البريء، أنا لست شاعرًا له خبرة في القوافي، ولا كاتباً ينقل الكلمات لساحة التعبير والتأثير، ولا أحمل كاميرا فالتقط أكثر الصور ألمًا ومأساوية، أنا رضيع أنطقه الجوع والحرمان والخوف، كأنني معجزة في وقت نحتاج فيه آلاف المعجزات لنستعيد معنى الحياة، عندها سأحيا حياة تليق بي، حينها أبني حلمي ويكبر اسمي وأرفع عاليًا علم وطني!
استشهد الرضيع (س) قبل أن يُسمى، متأثراً بالجوع في 2016 / 11/ 6
1 تعليق
حسين الحسن
أفئدتنا تعلم يقيناً أن الرضيع س قد ترك أثراً يواسي أهله بكونه أحد طيور الجنة وشفيعاً لهم بٳذن الله ، ولو لم يولد