صهيب إنطكلي |
لطالما استوقفتني محلّات الألعاب الإلكترونية التي تغصُّ بالشبّان والأطفال المسترخين على كراسٍ بلاستيكيّةٍ وهم مشدوهون بالشّاشات كأنّهم يعيشون في قلب ألعابهم، والتي باتت تحوي بالإضافة إلى الألعاب الإلكترونيَّة طائفةً أخرى من الألعاب (كالبلياردو والفيش) وغيرها.
اللاعبون في تلك المحلات نتيجة إدمانهم عليها لا يسمعون أحدًا إن ناداهم لوجود السماعات واندماجهم الكامل؛ وهكذا يمر الوقت عليهم بما فيه من واجبات أهمها العبادة وإجابة المؤذن والصلاة، وهم مستمرون أمام الشّاشات.
ربّما لا يقتصرُ الأمر على الشّاشات الكبيرة الّتي توفّرها محلّات الألعاب الإلكترونيَّة هذه؛ فشاشات هواتفنا الصّغيرة تعرض لنا عبر الشّبكة العنكبوتيّة مئات الألعاب؛ لا بل الآلاف الّتي تُقدّم بدايةً بشكلٍ مجانيٍّ لتملأ الدّنيا وتجذب إليها أعلى نسبةٍ ممكنةٍ من النّاس وبالأخصّ فئة الشّباب؛ فترى الواحد منهم يقضي السّاعات تلو السّاعات، لا بل الأيّام والأشهر والسّنوات ربّما ينتقل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى في لعبةٍ لا تنتهي مراحلها؛ وقد يتنافس مع غيره في اللعبة ذاتها؛ ممّا يزيد من شغفه ليجدّ أكثر في اللعب؛ فيتسمّر أمام شاشة هاتفه لوقتٍ أطول في محاولةٍ للتّغلّب على خصومه.
ولقد انتشر مرض الألعاب هذا انتشار النّار في الهشيم حتّى أصبح بلاءً عامًّا؛ فالكثير من النّاس إلّا مَن رحم ربّي يقضون أعمارهم وهم يلعبون ويلهون في عبثيّةٍ لا نهاية لها؛ وإنّك إذا سألتَ أحدهم مثلًا؛ هل قرأت كتابًا يومًا ما؟ أو هل مارست هوايةً مفيدةً؟ هل صلّيت في المسجد معظم الأوقات؟ هل فكّرت يومًا لماذا خلقك الله تعالى؟ وما الوظيفة الّتي أوكلها إليكِ؟ وإذا أدركت الوظيفة هل تقوم بها كما يحبّ تعالى ويرضى؟ هل وضعت هدفًا لك في الحياة وتسعى دائمًا للوصول إليه؟ هل يُعقل أن تقضي عمرك وأنت تلعب؟
لربّما كانت أغلب الإجابات عن هذه الأسئلة بالنّفي أو الاستغراب والتّأفّف والاستنكار.
الغريب أنّ هذا الإدمان على الألعاب وضياع الوقت ليس خاصًّا فالفئة الّتي لم تأخذ حظًّا وافرًا من التّعليم؛ فهو يشمل أيضًا طائفةً واسعةً من المتعلّمين الّذين يُفترض أنّهم أوعى من سواهم؛ فنرى الكثير من الجامعيّين مثلًا يضيعون أوقاتهم على الألعاب؛ أحد معارفي طالبٌ في كلّيّة التّربية لفتني تعلّقه الشديد بلعبة البوبجي؛ فقلت له يومًا: (يا رجل عم تضيع كل هل وقت على لعبة لا طائل منها) فأجابني ببرودٍ: (يعني بشو بدي عبي وقتي الطويل بعد الدراسة؛ عُطل طويلة ووقت بحر).
حقًا إن من أعظم أسباب هذا البلاء عدم إدراك الإنسان لمعنى حياته؛ وتحديده لهدفٍ يسعى إليه يملأ عليه وقته وروحه؛ فتراه يتخبّط في اللاشيء.
نعم؛ كثيرةٌ هي الأعمال الّتي يمكن أن نقوم بها في هذا الوقت الثّمين الّذي نسكبه على قارعة الزّمان سكبًا؛ نستطيع أن نرتّل القرآن؛ ونجعل لأنفسنا وِردًا دائمًا منه؛ نستطيع أن نقرأ تفسيرًا جامعًا له؛ نستطيع أن نمارس هوايةً مفيدةً؛ نستطيع أن نلعب رياضةً تعيننا على تقوية أبداننا؛ نستطيع أن نعمل عملًا إضافيًّا يزيد دخلنا؛ نستطيع أن نقضي وقتًا أطول مع أبنائنا؛ نعلّمهم ونتعلّم منهم؛ نستطيع أن نخضع لدوراتٍ نطور فيها مواهبنا؛ نستطيع في هذا الوقت المهدور أن نغيّر أرواحنا وعقولنا نحو الأرقى؛ نستطيع أن نسعى لأن نترك بصمةً في هذه الحياة؛ وحسبنا أن نستذكر قوله تعالى: (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ)؛ وقول رسوله صلّى اللهُ عليه وسلّم “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ؛ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ) فلنتخلّص من هذه العبثيّة ولنُعدّ الجواب في يومٍ آتٍ لا ريب فيه.