منيرة بالوش |
تتأمل (الحجة أم إبراهيم) جدران منزلها في مدينتها معرة النعمان، الذي لم تفارقه منذ أربعين عاماً، تتلمس بيديها المجعدتين نباتات حديقتها التي زرعتها شتلة شتلة، وشجرة شجرة، تودعهم كأنهم أولادها وأحفادها، تخرج كلماتها الباكية بغصة تلو الغصة، “بخاطركن ياورداتي.. يا حبيباتي، بخاطرك حجارة هالدار” وتمضي..
فقد حان موعد النزوح، لم يسعفها الوقت لوداع أزهارها ودجاجاتها وقطتها، كما تشاء ولم تسعها سيارة الشحن الكبيرة لأخذ كل أغراضها وأشيائها وحيواناتها الألفية بعيداً عن القصف والموت المؤكَّد، بعدما اقتنعت بصعوبة من أولادها أنه لابد من النزوح والنجاة بأرواحهم قبل أن يفوت الأوان.
تخبرنا الجدة المسنة أنها كانت تستضيف المهجرين، لم تشأ أن تقول عنهم “نازحين” في منزلها طيلة السنوات الماضية، تحن عليهم وتكرمهم ولا تناديه إلا “بالضيوف الكرام” ويصعب عليها اليوم أن تكون هي النازحة، والمهجرة عنوة من منزلها وبيت العائلة الكبير الذي يضم أولادها وأحفادها منذ عشرات السنين..
“اقتلاع من الجذور” هكذا شبهت حالها بشجرة تقتلع من أرضها ولا تدري هل ستبقى على قيد الحياة في التربة الجديدة أم سرعان ما سيأكلها اليباس وتموت؟!
عشرات الآلاف من المدنيين جلهم من النساء والأطفال خرجوا من بيوتهم في مدينة معرة النعمان وريفها والبلدات المحيطة بها بعد الهجمة العسكرية الشرسة من النظام السوري وحليفه الروسي، متبعين سياسة الأرض المحروقة، للاستيلاء على المناطق السابقة.
(ضحى) واحدة من آلاف النساء التي أُجبرت أيضًا على مغادرة منزلها في سراقب، برفقة أمها وأخيها وزوجته ومعهما طفلهما الرضيع، استطاعوا الوصول إلى مدينة (الباب) والمكوث عند أحد الأقارب بعد رحلة شاقة في سيارة الشحن التي نقلت معظم أثاث منزلهم وحاجياتهم الضرورية، تاركين وراءهم منزلاً وأرضاً وذكريات ووطناً كما قالت لنا، وأضافت: “رحلة النزوح كانت صعبة جداً على والدتي المسنة ولاسيما أنها تعاني من ألم في قدميها، وزادت مشقة السفر لأكثر من ست ساعات من أوجاعها، وهي إلى الآن مصدومة وغير واعية لما حدث.”
تقول ضحى “لم يكن الوقت كافيًا لترتيب أغراضنا، ومعرفة ماذا سنأخذ، تفاصيل كثيرة تتزاحم في لحظة واحدة، وعلينا مغادرة المكان بأسرع وقت، وبالكاد وجدنا سيارة تقلنا إلى مدينة الباب بعد يومين من حزم أمتعتنا مقابل 120 ألف ليرة، لنبدأ رحلة جديدة من المعاناة بعد النزوح في تأمين المأوى والبدء من الصفر. “
خلفت هذ الهجمة مئات الآلاف من العوائل بلا مأوى أو مسكن، بعضهم ما يزال في صناديق الشاحنات أو على أطراف المخيمات التي غصت بالنازحين واحتملت فوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف مضاعفة، في ظل استجابة غير كافية للأعداد النازحة من قبل منظمات المجتمع المدني والهيئات الإغاثية.
حال “أم عمار” بات مختلفا قليلاً عن سابقاتها، فهذا ليس نزوحها الأول، بعد خروجها من كفرنبل قبل عدة أشهر، فهي تنزح للمرة الثانية من أطراف معرة النعمان إلى أي مكان آمن، لكنها لم تجد مكانًا الذي تشد إليه الرحال مع أطفالها الخمسة سوى إحدى المدارس في مدينة (إدلب) بعدما جمعت القليل من أغراض بيتها وبعض الأغطية والفرش الإسفنجية وأواني المطبخ، وافترشت غرفة في المدرسة مع أنها تخلو من أي مقومات للحياة الطبيعة، تقول: “خرجت تحت القصف بأرواح أطفالي ولم يهمني إلى أين أذهب، المهم إنقاذ أطفالي من الموت.”
(أم عمار) بعد نزوحها باتت تبيع بعض الزجاج من أواني مطبخها وأغراضها حتى تأمن لقمة طعام لأطفالها، رغم أن سكنها مؤقت وغير صحي، فهي تدرك أنه أفضل من العيش تحت العراء.
عانت المرأة السورية في هذه الثورة الكثير من العذاب، واختبرت النزوح والتهجير والفقد وماتزال تعاني في ظل صمت دولي وأممي واضح، يتخذ من الدفاع عن حقوق المرأة شعارات براقة، في حين يتعامى عن حقوق المرأة السورية في الحياة والحرية والعيش في بقعة صُنفت من أكثر الأماكن خطرًا وبؤساً في العالم.