جاد الغيث |
قبل يومين جمع حفل صغير خمسة أفراد من عائلة (جودي) وعريسها (حسام) الذي استشهد كل أفراد عائلته وهاجر من تبقى من أقاربه، صار وحيداً في هذا العالم المليء بالقصف والرعب، ولعل بداية حياة جديدة مع زوجة طيبة تكسر جليد الوحدة التي يعيشها، فاختار (جودي) لتشاركه أفراحه المتوقعة وأحزانه المرتقبة، إنه يعرفها جيداً فهي زميلته المدرسة نفسها التي يدرس بها، وكلا العروسين لم يتجاوزا بعد الثالثة والعشرين من عمرهما.
في الصباح التالي للخطوبة، كان الجو ربيعيًا دافئًا مع اليوم الأول لشهر نيسان 2014، ولكن مساء ذلك اليوم كان الأشد حزنًا والأكثر قهرًا.
في حي (الشعار) بحلب الشرقية تعيش (جودي) وخطيبها، ومنذ بداية الثورة لم يَسلم هذا الحي المكتظ بالسكان من البراميل المتفجرة، فكل يوم ما بين الثامنة والتاسعة صباحاً تحلق مروحيات نظام الأسد لتقطف مزيدًا من الأرواح البريئة ولتدمر مزيدًا من الأبنية.
كعادتها كل يوم تُصلي (جودي) الفجر وتحضر دروس تلاميذها، تكتب بعض الكلمات الطيبة لخطيبها وترسل بعض الورود عبر الوتس آب، بعد ذلك تجهز فطورها تأكل قليلاً من الطعام وتشرب الكثير من الشاي أو الزهورات الطبية، هي تحب أن تبقى حنجرتها ولسانها رطبًا فطوال اليوم تشرح لتلاميذها الدروس وتجيب على أسئلتهم وتغني معهم أيضاً.
في الساعة السابعة غادرت (جودي) منزلها، عشر دقائق وتصل إلى المدرسة، كانت تشعر بنشاط وفرح كبير، لدرجة أنها لم تنتبه لصوت المروحية التي كانت تحوم قبل أوانها، لم يخطر في بالها أبدًا أنها ستغدو بعد دقائق قليلة نصف جثة متفحمة تدفن قبل الغروب!
سقط البرميل، صفيره لا يشبه أي حالة رعب يمكن تخيلها، (جودي) لم تسمع صوت ارتطامه ولم تشعر بالفزع، ببساطة لأنها انتقلت إلى العالم الآخر بكل سلام وهدوء.
المحزن في الأمر فقط أن جثتها اختفت تحت باب حديدي ضخم، عندما حاول أن يمر أحد رجال الدفاع المدني فوق الباب شعر بجثة كأنها تستغيث تحت وطأة أقدامه!
نادى الرجل بصوت مخنوق :(يا شباب حدا يرفع معي هالباب، في شهيد تحته …)
الناس في ذهول وكرب، وصوت الرجل يعلو، وبعزم أربعة رجال رُفع الباب الحديدي
ليكشف عن نصف جثة مشوهة الملامح، لا أحد يعرف أين اختفى الجزء السفلي من تلك الجثة، ولم يستطع أحد أن يتعرف إلى (جودي) غير (حسام)، لقد عرفها من خاتم الخطوبة، الذي كان شاهدًا على فرحة لم تكتمل!
عند المغرب دفنت (جودي) في حديقة بعيدة عن بيتها، كانت ليلة مليئة بالألم والدموع، كادت الأم أن تصاب بالجنون، لم تستطع تخيل أن ابنتها في مقبرة بعيدة، وحُفرة القبر بعمق نصف متر، فحين وصل ثلاث شبان من أصدقاء (حسام) إلى المقبرة استعانوا ببعض العصي المرمية جانبًا، حفروا ما يشبه القبر في حديقة تحولت إلى مقبرة للشهداء!
صرخت الأم وبكت: “بدي شوفها، بدي تدفنوها جنب أخوها الشهيد، هون جنبي بمقبرة عيلتنا، آه.. آه.. يارب، يا ربِّ دخيلك لو مرَّ كلب جوعان ونبش التراب …)
ولم تتمكن الأم من إكمال كلامها، خنقتها دموعها، وفي الصباح أزاح الأب التراب عن جثة ابنته، وحضنها عائدًا بها إلى البيت.
ألقت الأم نظرة الوداع الأخيرة على ما تبقى من جسد ابنتها، ومضى الأب إلى قبر حقيقي، عميق بعمق أحزانه، قريبًا من قبر ابنه الشهيد، آوى جثة (جودي) فيه وأغلقه بإحكام.
هذه المرة لا يمكن لأحد أن يصل إلى نصف جثة مدفونة بعناية مزقها برميل أسدي حاقد أخفى نصفها بين الأنقاض ونصفها الآخر كُتب له أن ينتقل من قبر إلى قبر.