جاد الغيث |
في مدرسة خاصة اختارت اسم (القدس) دخل الموجه شعبة طلاب البكالوريا الأدبي ليتفقد الغائبين، أول ما لفت انتباهه المكان الخالي لشاب وسيم اسمه (يوسف) ولكن كل من يعرفه يناديه (أبا حفص) نزولاً عند رغبته.
سأل الموجه بصوت جهوري: “يا شباب وين يوسف؟ صار 3 أيام مروا وما أجا ع المدرسة مالو بالعادة يغيب!”
أجاب الطلاب بأصوات مختلطة: “عنده رباط أستاذ …لازم بكرى يداوم”.
خير إن شاء الله، قالها الموجه ومضى إلى غرفته، تابع أستاذ الفلسفة شرحه لنظرية صعبة من كتاب المنطق، وفي ذات الوقت كان (أبو حفص) يتابع تنظيف سلاحه ويعيد تركيبه، هو يفعل ذلك بين حين وآخر، لأن سلاحه بمنزلة روحه!
أما قلبه فهو مقسم إلى ثلاثة أجزاء، جزء مع ابنة عمه التي خطبها قبل شهر واحد فقط، وجزء مع أهله النازحين لقرية آمنة نسبيًا، لكنها بعيدة عن مكان رباطه، ويبقى الجزء الثالث والأخير من قلبه معلقاً بطلب العلم!
وبالرغم من أن (أبا حفص) ترك المدرسة منذ سنوات والتحق بالثورة وخاض المعارك، إلا أن حبه للتعلم والمعرفة لم ينقطع، وبعد أن فقد ساقه في معركة فك حصار حلب، التزم بالرباط على الجبهات الباردة، وصار هاجسه كتبه ودراسته، سجل في مدرسة خاصة وبدأ التحضير لدراسة البكالوريا الأدبي وهو يبلغ من العمر 24 عامًا.
في نوبة استراحته من الرباط، يجهز إبريق (المته)، يجلس في زاوية ويتدرب على كتابة مواضيع الفلسفة، وإعراب ما تحته خط من أسئلة الامتحانات السابقة، وفي النهار يحمل معه لنقطة الرباط كتاب الجغرافية أو التاريخ ليحفظ المعلومات عن ظهر قلب.
وعند ظهيرة يوم 5 تشرين الثاني 2019 في نقطة رباط (الراشدين الخامسة) سقطت قذيفة أسدية تطايرت شظاياها وتبعثرت في أرض مهجورة ….
شظية ملتهبة كالجمر بحجم كف طفل صغير، اخترقت صدر (أبا حفص) واستقرت في قلبه، سال الدم على صدره، تشربه معطفه الشتوي، كان الدم حارًا يغادر الجسد الفتي، المفتول العضلات المليء بالحياة.
الدم يصبغ كتاب الجغرافية، في الصفحة السادسة والأربعين، درس بعنوان (سورية الزراعية) والسطر الذي يسيل عليه حبل الدم الآن كتب عليه:
“تشتهر أراضي محافظة إدلب وريفها بخصوبتها وبكثرة أشجار الزيتون فيها”.
الدم بدأ يتجمد من البرد، الصفحات في كتاب الجغرافية التي تتكلم عن سورية أشبعت بالدم، ليست الصفحات فقط، فدماء السوريين روت كل شبر من أرض سورية.
مازالت مدفعية أكاديمية الأسد العسكرية تتوالى قذائفها في السقوط على نقاط الرباط في جبهات ريف حلب الغربي وتوقع أضراراً مادية بالبيوت المهجورة والمدمرة مسبقًا، كل ثلاثة دقائق وربما أقل تسقط قذيفة.
أخيراً انتبه رفاق (أبي حفص) لغياب صوته عن القبضة، شعروا بأن مكروهًا قد أصابه، ولكن بعد فوات الأوان، صديقه عبد العزيز كان صوته يرتجف وهو يكرر نداءاته المتتالية عبر القبضة: “نقطة 5.. هل تسمعني.. نقطة 5.. حول”
لكن (أبا حفص) لم يعد يسمع أي صوت له صلة بعالم الدنيا، بالنسبة إليه اختفى صوت القذائف، كما اختفى عويل الريح الباردة، وأصوات طلقات الرصاص، كل ما يشغل سمعه وقلبه الآن، إحساس رائع بالأمان والدفء يتغلل في خلاياه، يتسرب بهدوء ونشوة لا مثيل لها إلى كل ذرة في كيانه!
بعد نصف ساعة كان خبر استشهاده قد وصل جميع رفاقه، وبعد ساعتين من استشهاده كان جميع طلاب مدرسة القدس في تشييعه، والكل كان يهتف بصوت واحد: (لا إله إلا الله، والشهيد حبيب الله).