علي سندة |
عندما تتفشى المشكلة المجتمعية برضى مجتمعي ينتفي عنها صفة السلبية التي من المفترض أن تكون موجودة، ومثال ذلك أن تكون ظاهرة (تعاطي المخدرات) مُلاحظة ومشاهدة من قبل عدد كبير في المجتمع، وليست حالة أفراد، فيتم السكوت عنها رغم سلبيتها ولا تُحارب، عندها تصبح ظاهرة متداولة إيجابية بدل أن تصبح مشكلة مجتمعية سلبية واجبة الحل كما في (القات اليمني).
واستنادًا إلى الفرق السابق بين الظاهرة المجتمعية والمشكلة المجتمعية، نجد أن صناعة (الرمز) الذي يشكل القائد أو المرجعية للأفراد في مجتمع ما، لن تنجح حتى لو كان ذلك الرمز متفردًا بصفات خاصة مادام العقل الجمعي للمجتمع يعمل على تهديمه باستمرار، والسبب تحول المشكلة المجتمعية السلبية في عدم صناعة الرمز إلى ظاهرة مجتمعية إيجابية ظنًا بفعل الصواب، لتسود العبارات الجماهيرية التالية: “كلهم حرامية، ما في ولا واحد شريف، كلهم خونة، من في الخارج يتاجرون بنا، من في الداخل مرتزقة، لا يوجد أحد يعمل للبلد،..” وغيره من تلك العبارات التي تعكس الحالة الفكرية الجماهرية السائدة في المجتمع السوري حاليًا، والتي ترمي إلى تحطيم أي شخصية تعمل لأجل الجماعة بمجرد ظهورها.
إذ يندر أن تجد طرحًا إيجابيًا حيال شخصية قدَّمت ما تستطيعه خلال فترة عملها بمكان وزمان معينين، حتى الشخصيات التي كُتب لها القبول في الحاضنة الشعبية لم تسلم من الألسنة الهدامة، وفوق كل ذلك ماتزال الحالة الشعبية تسأل نفسها إلى متى؟
تكمن المشكلة أن أفراد المجتمع مايزالون أسرى التفكير القديم الذي يهيمن على العقول باللاشعور نتيجة القمع والديكتاتورية، ما ولَّد ثقافة “إذا راح ما بدو يجينا أحسن منه (ويقصدون رمزية الرئيس)” التي بدورها أنتجت هدم أي رمز قادم، وولَّدت أيضًا ظواهر مجتمعية عدة هي من مستلزمات الديكتاتورية ونتائجها، كالمغالة في الآراء، وعدم تفهّم الآخر، والتي أفرزت بدورها أزمة ثقة بين أفراد المجتمع، فتطورت إلى أزمة مواطنة، وصار المجتمع يعيش بمشكلة اجتماعية عامة دون استشعاره لها ومحاربتها، وهنا تكمن الكارثة.
عند الصحوة (في حالة الثورة) انعكست تلك المكتسبات الجمعية (ثقافة هدم الرموز) عبر عقود من الديكتاتورية في الحالة اللاشعورية لدى الأفراد رغم التضحية من أجل تصحيح المسار المجتمعي وتحقيق الحرية، ليأتي السؤال الذي يفرض نفسه منذ عشر سنوات تقريبًا إلى اليوم: ما هي الشخصية السورية حاليًا (الرمز) التي من الممكن أن يجتمع حولها أفراد المجتمع في هذه المرحلة؟ ببساطة شديدة مؤلمة لا يوجد، والسبب ناتج عن ثقافة الهدم ومعاوله التي ماتزال تعمل في كل البنى المجتمعية السورية المتجذرة في الحالة الجماهيرية التي أفرزت بدورها نخبويتها التي تسوس الأمور بتكتم عن الجماعة التي تصارع الموت كل يوم، بل إن التكتم قائم بين النخبوية نفسها فضلًا عن المجتمع، وانعكاس ذلك فتح المجال للمصدر الخارجي لملء ظمأ الفراغ الجماهيري الذي يتوق إلى الحقيقة والمعلومات التي تسكت عنها (النخبة المفترضة) ليبدأ ذلك المصدر الخارجي بضخ الأفكار الهدامة وتعزيز التفرقة بين الداخل والخارج والاصطياد بالماء العكر، وهذا ما نعيشه في حالتنا بوقتنا الراهن.
الرموز يظهرون عادة بتميزهم عن باقي الجماعة واستشعارهم العمل لأجلها، ولا ينجحون إلا إذا ما عملت الجماعة على دعم مواقفهم وأعمالهم بعقل شعبي واعٍ بعيد عن الجماهيرية العاطفية، نابعٍ من فطرتهم على وجود رمز يقودهم ويسوس أمورهم، وإسكاتهم للأصوات الهدامة القليلة التي لا يخلو منها مجتمع ولا تفكر إلا بسلبية وهدم.
وغير ذلك سيبقى المجتمع يعيش حالة الجماهيرية والانقياد لكل غريب يخاطبه، لأن البقية المُصلحة من أفراد المجتمع يستشعرون أن المجتمع يعيش مشكلة اجتماعية سلبية وليس ظاهرة مجتمعية صحيّة، لكنهم في الوقت نفسه غير مستعدين للتضحية في سبيل الإصلاح ويكتفون بالتنظير، وفي هذه الحالة سنبقى أسرى الثقافة الجماهيرية التي صنعتها الديكتاتورية لتهديم كل ما هو مفيد للمجتمع، وسنستمر على ذلك حتى الاجتماع على رمزٍ يمثل قيم المجتمع وتطلعاته، لملء الفراغ السياسي بالدرجة الأولى، فضلًا عن باقي المجالات التي تتطلب رموزها أيضًا من أجل نهضة جديدة.