الهيثم نجيب |
لن أكونَ صادقاً إن قلتُ لكم إن حياتنا كانت شديدة الجمال والاستقرار، ولكنّي أجزم أن الحياة كانت تعامِلُنا بقسوةٍ أقلّ من غيرنا، حتى خِلنا أنفسنا بخير لسنواتٍ خـَـلَت.
كان هذا قبل أن تمطر السّماءُ علينا مطراً لم نألفه من قبل، تختلف قطراته في حجمها وماهـيّـتها. هذه المرّة كانت القطرات تأخذ شكلاً شبه بيضويّ، مصنوعٍ من المعدن الصّلب؛ كثرة القطرات لا تشكّل بحيرات صغيرة في أزقّة الحيّ كما ألِفنَا المطر المعروف؛ فالعديد من قطرات هذا المطر قد تكون كفيلةً بإزالة حيّ كاملٍ عن الوجود، وتحويله لذكرى تسكُن أفكار قاطنيه، فيصوغون منها حُلماً جميلاً لعودة مُرتَـقَـبَـةٍ، يربّون عليه صغارَهم وأجيالهم القادمة.
اختلف أهل بلدتنا في الاسم الذي سيطلقونه على هذه القطرات الجديدة؛ فمنهم من قال إنّها (قذائف) ، بينما أكّد بعضهم الآخر أنها (صواريخ). وربما تكون الإجابتان صحيحتين؛ فمن غزارة القطرات لم يخطر على بال أحدٍ من سكان مدينتنا إظهار الفروق بينها، أو تحليل خواص كل قطرةٍ على حدة.
خرجتُ مع أسرتي من المنزل إلى الشارع، مروراً بساحة الدّارِ الواسعة لنركب مجسماً حديدياً كبير الحجم نسبياً يمشي على أربعة قوائم مطاطية، اتّخـَـذَت شكلاً دائرياً أنيقاً كان البشر، ولحسن الحظ، قد ابتكروه لإسراع عمليّة النقل من نقطة لأخرى، وطَيّ مسافات الطرق المتباعدة.
ها نحن نَـلِجُ إلى ذلك الاختراع الذي وُشِمَ على جبهته حرف (H) بشكلٍ مائلٍ نحو اليمين قليلاً، ليعبِّر بذلك عن اسم عائلة الشّركة المصنِّعة، والتي أشك أنها وضعت هدف (الهروب من الموت) ضمن قائمة الأهداف المرجوِّ تحقيقها من هذا الاختراع.
كانت “شاحنتنا” تسير ببطءٍ إلى جانب المئاتِ من مثيلاتها التي تنقل أُسَراً أخر من المكان نفسه إلى وجهاتٍ لا يعلمُها منّا أحد، في موكبٍ مهيبٍ وحشودٍ ضخمة لو غيّرت وجهتها واستقبلت ما استدبرت لَخُلِعَت أفئدة أعدائنا لها.
كنت أجلسُ في الخلفِ مع إخوتي على ركبتيّ، بينما يمدّدُ كلّ واحدٍ منهم رجله في جهاتٍ مختلفةٍ لا تكاد تفرّقها عن قوائم ما تبقّى من قطع الأثاث الموجودة معنا، التي تشاركنا نزوحنا هذا نحو المجهول.
يتوسّط جمعنا والدي السّتّيني بلباس نومه الذي لم تمهله غزارة (المطر) كثيرَ وقتٍ لتغييره، فاتحاً مصحفاً متوسّط الحجم يقرأ ما تيسّر له منه، ذرافاً مع كلّ آية يقرؤها دموعاً على الوضع الذي لم يخطر بباله يوماً من الأيام أنه سيعيشه.
من الصّعب على الإنسان أن يُجبَرَ على المسير في طريقٍ لا يَعرِفُ أين تكون محطته الأخيرة، مستدبراً نتاج تعبه لسنواتٍ يفوق مجموعها نصف قرن من الزمن.
لم أكمل دراستي الجامعيّة، بل لم أصل تلك المرحلة من عمري بعد؛ فأنا ابنُ اثنتي عشرة سنة حَصَدَت مناجل العدوّ ما يُفتَرَضُ أن يكون زهرة طفولتي، وجعلتني أسير في رحلتي هذه دون أن أعلمَ أتَركتُ ورائي ماضيّ أم مستقبلي، وهل سيكون ما سأستقبل من أيام وسنين روضةً من رياضِ الحياة التي سأنهل منها شتى أنواع العلوم والمعارف؟ أم ستكون زنزانة تحبس أنفاسي فلا أملك ما يؤنسني سوى ما حَمَلَتهُ ذاكرتي الطفوليّة من بقايا مشاهد سابقة، في منزلٍ وحيٍّ ومدينةٍ لم يعد لها أيّ وجود على أرض الواقع في حياتي التي أستقبل.
معذرة يا سادة، فقد تكون جرعة الألم التي أقدّمها بين حروفي وكلماتي كثيرة بعض الشّيء، لكنني أردت تشكيل ما مررت به البارحة على سطحِ ورقةٍ تتمكّن أمّي من خلالها أن تشتمّ رائحتي، وتسمع صدى أنفاسي، إن اختطفتني بعض قطرات هذا المطر من أحضانها.