أميمة محمد |
يشهد الفجر ساعاته الأولى في إدلب دون أن أستطع الرقود، كما بقية الليالي التي لا ينقطع فيها صوت المدافع وغارات الطيران التي تنفذ تارةً في محيط البلدة وتارةً في منتصفها.
أترقب نزوح الأهلي ونداءات المآذن لاستقبال المزيد من الشهداء بصمت وألم، لا يخلو الأمر من دوي صافرات الإنذار وسيارات الإسعاف التي توحي باقتراب الخطر أكثر فأكثر.
لم يتسنَ لي يوماً أن أغادر بتلك الطريقة التي يرحل بها الجميع، ليس لأنني مختلفة عنهم، إنما هي إرادتي وإصراري على البقاء حتى النهاية، أو ربما عدم استيعابي للفكرة من جذورها، ويبدو أن الاحتمال الأخير هو الأرجح.
لدي حماس شديد لأرى ألوان الورود الجورية التي زرعتها بحديقة منزلي، وأتذوق طعم عناقيد العنب في (الدالية) التي اعتنيت بها لأكثر من سنة والتي باتت جزءًا من يومي، وأحاول أن أحتسي ما استطعت من القهوة جانب أعواد النعنع في ذلك الحوض بجانب شرفة المنزل، لأخزن ما استطعت من هذه التفاصيل الصغيرة التي أجد فيها راحتي وملاذاً لروحي المتعبة.
اقتربت المعركة أكثر وبات تفكيري بالرحيل يظهر على غير عادتي، معركة في داخلي ومعركة في الخارج، لكن لا أعلم أيهما سينتصر ؟!
وتمر اللحظات المرعبة أحيانًا والمحزنة أحيانًا أخرى، وتتغلب الظروف لتفرض نفسها على إرادتي في هذه المرة لتجبرني على الرحيل… الرحيل الذي لم يكن بالحسبان.
وضبت أغراضي والقليل من كتبي وأوراقي المهمة وما تبقى من ذكريات صديقاتي من صورٍ ورسائل ورقية من أيام المدرسة التي ترجعني سنوات عديدة أثناء تقليبها، تحسست جدران المنزل وأنا أخاطبة: “أيام ويهدأ الوضع ثم أعود، لا أستطيع العيش إلا في فنائك”، أقفلت الأبواب على عجل، فالسماء تزداد فيها الطائرات مع مرور الدقائق، كان بوسعي أن ألتقط مزيداً من الصور لحديقتي لكن الوقت لم يسمح لي بذلك، ركبت السيارة وأنا أنظر خلفي، لم أستطيع البوح وقتها لكن في داخلي عبارة أنهكتني تتردد على مسامعي طيلة الوقت سمعتها من أناس نزحوا منذ بداية الثورة “طلعنا يومين وعلى أساس نرجع ولهلق ما رجعنا”.
كانت وجهتي شمالًا حيث يوجد أمان، لكن لم أكن أعلم أن الطرق إلى بر الأمان مسدودة، يزداد الضيق في صدري كلما ابتعدت أكثر واقتربت شمالًا، حيث أماكن سمعت عنها وأخرى لم أسمع بها مطلقا، وشريط الذكريات يعرض عليّ طيلة الطريق الطويلة منذ طفولتي وإلى الآن، دمعاتي تكابر على النزول ولساني حبيس الصمت والحيرة، عاجزة عن تخيل ما ينتظرني في رحلةٍ مجهولة لا أعرف بداية لها ولا نهاية.
وصلت مع زوجي وطفلاي قريباً من الحدود السورية التركية ورسينا في مدينة (سلقين) التي بدت لي بالوهلة الأولى أنها آمنة وجميلة.
لم أستطع الاختلاط مع أحد منهم فنظراتهم الغريبة للنازحين تشعرني بالشؤم مجددًا، ربما لا يقصدون شيئًا لكنها وحشة الغريب وانكساره.
نسيت من ذاك الحين طعم القهوة ولم يبقَ لها نكهة كما كانت مع جاراتي اللواتي انقطعت أخبارهنَّ وأحاديثنا عن يومياتنا وهواياتنا وأحلامنا.
لم تكتمل النهاية بعد فالطريق مازالت طويلة وشائكة أكثر من السابق، والخطر يحوطنا مجددًا بعد تقدم النظام من محاور مختلفة وتهجيره للناس أجمع، ليصابوا بحيرة بأنفسهم إلى الوجهة الجديدة التي تنتظرهم، فنحن لم نجد مأوى من شدة الازدحام (بسلقين)، إننا اليوم هائمون باتجاه الشمال مع قوافل النازحين المهجرين،
لا يوجد في الشوارع سوى مظاهر النزوح والقهر والألم والحزن في وجوه الناس المكلومة، حالة كارثية هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، ومآسي يمر بها الناس من فقر وجوع بعد خروجهم دون أبسط مقومات الحياة، لون الجبال اكتسى بالأزرق بدلًا من الأخضر من لون الخيام التي انتشرت فب كل مكان، ومع ذلك ثمة الكثير ممَّن لا يوجد عندهم خيمة يلجؤون فيها. ولم تنتهِ الحكاية بعد، فالجرح يزداد اتساعاً وعمقاً لأننا لا نعرف إلى متى هذا الحال؟ وإلى أين سنذهب مجدداً؟ ومتى نتخلص من هذا الجحيم الذي نحن فيه؟