عبد العزيز العباس |
إنها حكايات الموتى في العراق، إذا كانت رواية فرانكشتاين في بغداد للكاتب العراقي أحمد السعداوي قد تحدثت فقط عن التفجيرات التي شهدها العراق بين عامي 2005 وعام 2012 فإنّ رواية (وحدها شجرة الرمان) للكاتب العراقي (سنان أنطون) كانت كفيلةً بالتحدّث عن حكايات الموت بكافة أشكالها من العام 1980 حتى عام 2010 وهي السنة التي صدرت فيها الرواية.
تناقش الرواية الحالة الاجتماعية التي عايشت هذه الأحداث التي اختارها الكاتب لتكون مرايا لنرى من خلالها أثر الحرب والحصار والطائفية على الإنسان العراقي بغض النظر عن انتمائه الديني، وهذا يدل أنّ الطائفية لا دين لها ولا طائفة.
كيف استطاع الكاتب التعبير عن هذه الجدلية بين الحياة والموت؟ إن مهنة والد (مهدي جواد) بطل الرواية تغسيل الأموات، فأراده أن يصبح مثله وهو يحب الفن، والكاتب بهذه الجدلية كأنّه يحاول الهرب من الموت إلى الحياة والفن، لكن لا جدوى، لأن (مهدي) كلّما أحب شخصاً أخذه الموت أو المرض، أبوه مات وأخوه أمير كاظم كان قد استشهد في الحرب العراقية الإيرانية، وحتّى المرأة التي أحبها أُصيبت بمرض سرطان الثدي، وصديقه في الجيش هو الآخر مات أو اختفى، فالموت يحيط به من كل مكان، وكما قال في أحد فصول الرواية: “إنني كنت أعيش بين الأموات” لم يلجأ الكاتب (سنان أنطون) إلى الطريقة التقليدية في التعبير عن ارتفاع عدد ضحايا الطائفية، كان يقول: “إنّ مواد السدر والكافور بدأت تنفذ بسرعة وهو دليل على تزايد أعداد الموتى”.
لم يكن (مهدي جواد) هو بطل الرواية، بل الموت الذي كان يحرّك الأحداث بطريقته الخاصة.
كانت فصول الرواية طويلة وقصيرة، أمّا الفصول الطويلة فهي فصول الحقيقة أو هي الأحداث ممكنة الحدوث في الواقع مثل موت والد مهدي وإصابة حبيبته ريما بسرطان الثدي، أمّا الفصول القصيرة فهي أشبه بالفنتازيا مثل تلك التي زاره فيها ملك الموت على هيئة إنسان وطلب منه كتابة أسماء الموتى.
في الرواية معلومات عن طريقة تغسيل الميت على الطريقة الشيعية والمواد المستخدمة كالسدر والكافور.
من ميزات الرواية استخدام الكاتب اللغة العامية العراقية، وذلك جعل لغة الرواية قريبة من لغة الشارع لكنّها محمّلة بالكثير من الدلالات رغم محليتها، وكما يُقال: “الإغراق في المحلية يفضي إلى العالمية” ولا ننسى أنّ الكاتب سنان أنطون شاعر صاحب قلم فيّاض استطاع جعل النثر كالشعر يفيض إحساساً يقول: “الأحياء يموتون أو يسافرون، والموتى دائمًا يجيئون.” وقوله: ” كنت أظن أن الموت والحياة عالمان منفصلان بينهما حدود واضحة لكنّني الآن أعرف أنهما متلاحمان ينحت بعضهما بعضاً الواحد يسقي كأسه الآخر.” وقوله أيضًا: “أبي كان يعرف هذا وشجرة الرمّان تعرف هذا جيداً أنا مثل شجرة الرمان لكن كل أعضائي قُطعت وكسرت ودفنت مع جثث الموتى.
أمّا قلبي فقد صار رمانةً يابسة تنبض بالموت وتسقط مني كل لحظة في هاوية بلا قرار. لكن لا أحد يعرف… لا أحد وحدها شجرة الرمان، شجرة الرمان التي شربت من دماء العراقيين ونمت تعرف جيداً أين قرار هذه الهاوية.”
ومن الصور الجميلة قول الكاتب: “الموت لص جبان لا أعرف متى يأتي، لكنّه سرق كل شيءٍ مني، الوالد والأخ والحبيبة والوطن والأحلام، وكما يقال: الموت ليس إلا بداية، فهو ليس النهاية خاصةً للروح أو من يتعلّق بهذه الروح كالمحبوب والوالد والوالدة الموت نهاية للجسد فقط. “
في الرواية نجد أن مشيئة الله له قدرت أن يُولد (مهدي) في أسرة تمتهن مهنة تغسيل الموتى، لكنّ روح الفنان داخله حاولت التمرد لكنّها استسلمت أمام القدر والموت فترك الفن وعاد إلى تغسيل الموتى، ثم بعد أعوام جاء غزو أميركا للعراق فعدل عن تغسيل الموتى إلى مهنة طلاء البيوت، ويا للصدفة كم بين الطلاء والرسم الذي تركه مُرغماً من تشابه ليغادر في النهاية العراق إلى الحدود الأردنية بحثاً عن الحياة لأنّه شبع من الموت، لكنّ الموت لمّا يشبع بعد.