أحمد وديع العبسي |
حلب، جارة الياسمين، وإكليل الغار الذي يتوج الشام كلها، عبق الحبق وقلب عبد الوهاب، وعطر الجوري ومسك الذاكرة.
الحارات العتيقة والسوق الأثري، والقلعة الشامخة ما امتدت الدنيا إلى القيامة، عرش سيف الدولة وموسيقا شعر المتنبي وطرب الموشحات الأندلسية، صدى قرطبة وبعث غرناطة ورهان دمشق ومحراب الأقصى الذي ينتصب في جامعها الكبير حيث سجد الفاتحون …
بأعين الحلبيين لا مدينة أجمل من حلب، ولا حضارة تفوق حضارتها كأقدم مدينة في التاريخ على الإطلاق، المدينة المترعة بالعراقة والأصالة والقيم الرفيعة
لم تكن حلب على مرّ التاريخ إلا ربّة المدائن وزينتها، ولم يكن أهلها إلا أكرم الناس وأجودهم، وأكثرهم نخوة وشهامة وإغاثة للملهوف، أنصاراً الحق، وملجأً للمظلومين.
أهل حلب أصحاب أشهر الصناعات الشرقية، حرفيون وتجار، منهم يتعلم الناس في الشرق أصول الصنعة والسماحة والكرم، والتجارة في حلب سمعة وأخلاق وعطاء … إذا ذهبت إلى سوقها القديم قبل أن يحترق تجد هناك الكثير من العائلات العريقة في التجارة التي مازالت تحافظ على تقاليد المهنة وقيمها.
أول نكسة في حلب كانت يوم جاءها عبد الناصر، أحبه الحلبيون بفطرتهم لما سمعوا عن عروبيته وأصالته، ولكنه كان خسيس الطبع نذل المعشر، فسلب كرماء حلب وتجارها أموالهم بحجة التأميم وقضى على معظم الصناعات التاريخية فيها، وولى عليها بعض الضباط الخونة الذين أصبحوا فيما بعد تجارها الجدد.
أمّا النكسة الكبرى في تاريخ حلب وسوريا كلها فهي عندما استلم حزب البعث مقاليد السلطة في سوريا، فضيق على أهل حلب ودمشق، وعمل على إفقار تجار المدينتين، فلم يبق من أصحاب الأصالة فيهما إلا القليل، وغادر كثيرون أو أصابتهم الفاقة، وأحدث النظام في حلب وجوهاً جديدة للتجارة والمال، هذه الوجوه كانت من محدثي النعمة، الذين لا تشبعهم الدنيا وما فيها، صنعوا ثروتهم بالفساد والرشاوى والتزلف للسلطة والسرقة من الناس والدولة، والصفقات المشبوهة والمشاريع الفاسدة في جيمع المجالات. فنشأت مجموعة جديدة لتمثل وجه حلب التجاري والصناعي مخلصة للفساد والسلطة فحسب، وعاملت الناس على أساس ذلك من عمال ومستهلكين، فأورثتهم طبعها رويداً رويداً …
رغم كل ذلك لم يتغير وجه حلب كثيراً، ولكن تم إقصاء كل من لاينتمي لهذه الشرذمة القذرة وإبعاده عن تمثيل حلب وأهلها، وتمّ تصوير المدينة على أنها بؤرة للجشع والطمع لا غير .. وقامت الدراما التلفزيونية بدورها من أجل ذلك، وفي كل مناسبة يُخرج النظام قذارته التي انشأها في حلب لتشوه وجه المدينة الحقيقي الأصيل والمعذب والمختنق اليوم تحت سطوة الظلم والاستبداد.
حلب كانت ومازالت مدينة النخوة والكرامة، وإن غاب وجهها الحقيقي وكتمت نبضات قلبها، … الكثير من أهلها مهجرون وآخرون يعضون على آلامهم وعذاباتهم كي يصمدوا فيها، ولا يتركوها للطغاة، ولم يحتفل باغتصابها، إلا بعض القوادين الذين ينتشرون في كل المدن على السواء، وهم فقط من يظهرون في ساحات العهر وتلتقطهم كاميرا المجرمين لتشويه الحقيقة.