جاد الغيث |
بعد أن عشت تسع سنوات مع الحرب حاضرًا في كل تفاصيل أوجاعها ومعتادًا على صور دمارها وأصوات آلاتها العسكرية، بدءًا بأزيز الرصاص مرورًا بصفير البراميل المتفجرة وصواريخ السكود بعيدة المدى، وختامًا مع صوت القذائف التي تعتبر الأشد تأثيرًا في نفسي، مع أن أضرار القذيفة وصوتها أقل رعبًا وفتكًا من الأسلحة الأخرى، ومع ذلك لا أدري لمَ صوت وقع القذيفة يشلني ويخرسني، يوقف قلبي ويمزقني؟!
مع صوت كل قذيفة كان ينقص من عمري شهرًا كاملاً، وبناء عليه وجدت نفسي ميتًا منذ آلاف السنين!
القذيفة كأنها أنا، أشعر بمكان سقوطها، أختنق بدخانها الكثيف، ثم أتحول لأنين الحجارة المتوجعة والأشياء المحطمة والممزقة، قبل أن أغدو صوت الأب أو الأم الذي ينادي على أولاده، وقبل أن أصبح ذلك الوجه الأصفر لطفل معقود اللسان، يشهق برعب بعد أن نجا من الموت.
اليوم أتمنى لو أنني أصم، أرى ولا أسمع، أتوجع بصمت دون خوف أو تخيل لآلام لم أعد أطيقها، خاصة حين تشتد المعارك، فتنهال القذائف كأنها حبات المطر، الليلة الماضية كانت ليلة شديدة البرودة، أحصيت فيها وبدقة صوت (70) قذيفة، كأنها تريد أن تهدَّ الأرض هدًا.
هنيئًا لكم أيها الصُّم في زمن الحرب، تنامون على أنغام الصمت الساحر، وهنيئًا لكم أصدقائي العميان، عيناكم ترى سوادًا مطبقًا دون أن تتمزق قلوبكم لرؤية أشلاء الأبرياء التي تَخرج من بين الأنقاض، أو رؤية مدن مدمرة بكاملها، أو طرق تغصُّ بسيارات تحمل النازحين وما تبقى من أغراضهم، يسيرون في طريق مجهول لا يعرفون نهايته.
تمرُّ ساعات الليل ثقيلةً، ومع كل قذيفة يزيد قربي مع عائلتي من الموت، يزداد
هلع أولادي وزوجتي، انتظر خيوط الفجر الأولى لأبحث عن سيارة وسائق يقودنا إلى موت آخر أكثر رحمة من موت القذائف.
قبل أن أخرج بدأت زوجتي بحزم بعض الإسفنجات والأغطية، قليلًا من مونة الصيف وكثيرًا من الألبسة للأولاد.
بيتي الجديد الذي اكتمل بناؤه قبل ثلاثة أشهر فقط، سنغادره مكرهين، نحتاج واسطة نقل تحملنا إلى جحيم أكثر أمنًا، كالهائم على وجهه خرجت نحو صحراء تتحرك رمالها وتبتلع كل معجزة تخيلتها للبقاء هنا، في قريتي.
وجدت سيارة (فان) مع سائقها بعد بحث دامٍ ساعات، دفعت للسائق كل ما بقي معي من مال، حشرت حاجياتنا في قلب (الفان)، وبين الإسفنجات المتراكبة فوق بعضها حشرت أولادي، وفي اللحظة الأخيرة عند الباب الخارجي أجهشت بالبكاء وأنا أدير المفتاح في القفل، أي قفل يحمي بيتي من قذائف وصواريخ لا تهدأ، لماذا أضع المفتاح في جيبي كأنني سأعود للبيت مساءً أو بعد غد؟!
لم يبقَ سوى أن أصعدَ بجوار السائق وزوجتي بجانبي، فجأة توقف صوت القذائف، ليعلو بشكل مفاجئ أيضًا صوت الطائرة الحربية، كان بكاء (ميس وماسة) ابنتي التؤام يؤلم قلبي، تبكيان كيس ألعابهما الذي لم يبقَ له مكان ليحشر فيه، أقسمت لهنَّ: “والله العظيم رح جبلكم ألعاب أحلى وأغلى، بس لا تبكوا ياروح بابا”
صوت الطائرة الحربية يزداد قوة، كأنها تقترب منَّا أكثر وأكثر، آه ياربي، يا ليتني كنت أصم!