منيرة بالوش |
صوت الانفجار في مدينة إدلب مصحوباً بصفارات الإنذار جعل (أم عصام ٣٩ عامًا) تفقد عقلها من الخوف على بناتها الثلاث وطفلها الرضيع، بعدما تشظت النوافذ الزجاجية، وجرحت يد ابنتها الصغيرة.
لا شيء يسكت الهلع في هذه اللحظة سوى رؤية الجميع سالمين، تفقدت باقي البنات وهرعت لطفلها (عصام) الذي دخل بنوبة بكاء هيسترية من الأصوات التي سمعها.
لقد أخطأهم الصاروخ هذه المرة، لكنه أصاب عائلات أخرى، في كل مرة ننجو فيها نحن من الموت يكون الموت قد أصاب آخرين.
الأخبار العاجلة على مواقع التواصل جعلت أخت أم عصام التي تعيش في مخيمات أطمة مع ولديها تدعوها لمغادرة المدينة مؤقتاً، والمكوث معها ريثما تهدأ الأوضاع.
ترفض أم عصام فكرة النزوح منذ تهجريها من مدينة حمص أواخر ٢٠١٦، وتركها بيتها وأهلها وذكرياتها، فاليوم بعد أربع سنوات من الإقامة في مدينة إدلب استعادت خلالهم شيئاً من الألفة والسكينة في منزلها، لذا أصبح من الصعب عليها ترك كل شيء وراءها والنزوح إلى المجهول حيث لا شيء بات معلوماً ولا متوقعًا.
خوفها هذه المرة كان مضاعفاً، فطفلها الرضيع جعلها تنسف كل التوقعات بالنجاة مرة أخرى، وتعرض أحدهم لأي مكروه، وافقت على دعوة أختها، وبحقيبة صغيرة وضعت بعض الملابس والأدوية لطفلها فيما حاولت ابنتها أن تأخذ حقيبتها المدرسية وبعض ألعابها، لتخبرها أمها أنه لا حاجة لأخذهم “يومين وبنرجع”
تدرك أم عصام أن خيمة أختها لا تتسع لمزيد من الأغراض والحقائب بالكاد تتسع لهم، ففضلت عدم أخذ المزيد.
في النزوح يتذكر الإنسان التفاصيل الصغيرة التي لم تكن تعني له شيء من قبل لتصبح أشياء ذات قيمة نتيجة الغياب والبُعد، وكذلك شعرت أم عصام.
غير أن الأمور لم تنته عند حد الشوق أو الحنين للدار والأشياء، كأن المصائب لا تأتي إلا دفعة واحدة، ربما لتختبر صبرنا أو ترينا عجزنا وقهرنا.
وصلت أم عصام إلى بيت أختها بعد أكثر من أربع ساعات، كانت الطريق مزدحمة بالسيارات والشاحنات المثقلة بالأوجاع وبعض الأثاث والأغراض المنزلية، في حين كانت الطريق لا تستغرق نصف المدة قبل الهجمة الأخيرة على أرياف مدينتي إدلب وحلب، التي جعلت الناس يهيمون على وجوههم في سبيل البحث عن بقعة آمنة ولو كانت بحجم خيمة.
“هل جدران هذه الخيمة هنا أقوى من جدران بيتنا يا أمي؟! ” تتساءل ابنتها الصغيرة “علا” علّها تريح قلبها من الخوف قبل أن تقطع سؤالها نوبة سعال حاد كادت تخنقها، تفطنت أمها إلى (دواء الربو) الخاص بها الذي بقي في منزلهم بمدينة إدلب، حاولت أن تتصل بزوجها الذي وعدهم باللحاق بهم بعد انتهاء عمله في المساء، لتخبره بألَّا ينسى دواء (علا) التي أصابتها نوبة الربو جراء تعرضها للبرد والصقيع في طريقهم إلى المخيم.
ولكن أبو عصام تأخر كثيراً، مضى على موعد وصوله أكثر من ساعة ونصف، لم تجد حينها وسيلة تطمئِن بها نفسها سوى الدعاء له بالسلامة.
ماهي إلا دقائق حتى علمت من أحد الشبان الذين بعثهم زوجها من المشفى لإخبارها بأنه تعرض لحادث سير قوي كاد يفقد حياته على إثره، لكنها انقضت بكسر في عظم الفخذ ورضوض قوية في الكتف واليدين.
تقول أم عصام: “كان قلبي يخبرني بمصيبة ما” قالت وهي ترتدي معطفها للذهاب إلى مشفى (عقربات) الذي لا يبعد عنهم كثيراً، مشت مسرعة وهي تتمتم: ” ليتني لم أخرج من بيتي وبقيت هناك، بسببي كاد زوجي يموت وأنا الهاربة بأطفالي من الموت، أتراه يلاحقنا حيثما توجهنا؟!” لم تتوقف عن لوم نفسها، حتى وصلت ورأته.
نجا (أبو عصام) من الموت، في حين فُقدت عائلات بأكملها وهي هاربة من الموت لتلاقيه بانتظارها إما بحادث سير أو قصف مباشر على السيارات الهاربة، كأن سكرات النزوح والخروج من المدن لا تكفي حتى تكون الحوادث مقصلة أخرى يقضي عليها السوريون حياتهم أثناء بحثهم عن النجاة بأشياء تشبه الموت.