دعاء بيطار |
بعض الأفكار التي أشبعت فيما مضى تنظيرًا وكلامًا أصبحت اليوم غير مفهومة، بمعنى أن النظرة تجاهها أصبحت ضبابية وغير صالحة للتداول لأننا نعيش في مجتمع مفتوح على مصراعيه أفكاره خليط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
من ذلك أن التفكير فيما مضى بالنسبة إلى عمل المرأة (ربة منزل) فيه من الأفضلية والخير للأسرة والنفع للأمة أكثر من عملها خارجه، مع التحفظ على ما في النظرة الجديدة التي تدعو إلى خروج المرأة لمشاركة الرجل من دسائس وشر كبير، إلا أن إعادة التفكير فيما اتخذ من مسلمات للحياة من قبل أصبح ضرورةً تحتاج إلى الكثير من النظر والتأمل، وذلك للخروج بنظرة سوية نوعًا ما لِما استجد في الحياة من موضوعات، ومحاولة خلق التوازن مع ما مضى منها.
إن عمل المرأة اليوم يدًا بيد مع الرجل أصبح واقعًا لا مفر منه؛ لأن أعباء الحياة اختلفت، لكنني لن أتكلم عمَّا هو الأفضل للمرأة أن تخرج لتساعد الزوج أم تبقى في بيتها مع أولادها ولا عن حكم الشرع في هذا، إنما أريد فقط تسليط الضوء على المرأة التي لا عمل لها خارج المنزل لأنها اختارت ذلك بملء إرادتها، فقد عاشت صراعًا حقيقيًا لتختار التضحية بنفسها والرضا بالمردود القليل مقابل التركيز على أبنائها، فهي باعتقادها تريد لهم أن يصبحوا الأفضل وأن يجتازوا اختبارات الحياة بأقل قدر من الخسائر والضغوط، ففضلت الانشغال بتربيتهم وتأمين الجو الصحي والآمن لهم في البيت لتقضي جل وقتها في التعليم والتوجيه وحل المشكلات بينهم مع الاعتناء بأمور المنزل كلها، لكن خيارها ذاك مثل الموظف بدوام كامل غير منقوص منه حتى ساعات النوم والراحة دون مكافأة وأجر، وإن حظينَ بالمكافأة فلن تتجاوز حد الكلام والدعم المعنوي إن وجد.
موظفات لأجل حياة أفضل للجميع ثم يكافأنَ بنظرة قاسية من المجتمع الذي يؤمن بالنتائج السريعة فقط والمظاهر الخادعة، ويرى في مسمى (ربة المنزل) منقصة للمرأة وقلة في خبراتها عن الحياة والناس! ومن قال إن تنشئة إنسان من الصفر وإلى أن يصبح ناضجا مجرد أمر اعتيادي يحصل في كل بيت؟! هل يصبح الطفل شابًا دون جهد وسهر وتعب وتعليم بل دون مقاومة منه لإثبات نفسه أو دون توجيه لسلوكياته ومعرفة لمواهبه وامكانياته؟ هل الاعتناء بأكثر من طفل لكل منهم شخصيته المختلفة ورأيه وعناده وسط مجتمع منفتح ومحاط بالفتن من كل مكان وظيفة إنسانة تعيش على هامش الحياة؟ هل نسيان الذات في كثير من الأحيان لأجل تحقيقها فيهم أمر لا يستحق الالتفات ولا يعتبر نُبلًا وتفوقًا على الذات نفسها؟
هل من العدل اعتبارهنَّ أموات بانتظار الموت ليأتي بعدهنَّ من يكمل المسيرة، فهناك الكثيرات على مقاعد الانتظار فما الفرق؟!
هنَّ موظفات يجدنَ في ابتسامة الصغار البريئة وحبهم الصادق ترميمًا لما سقط من أرواحهنَّ المتعبة مع الحياة، وفي إنجازاتهم البسيطة المتلاحقة سلوى ودفعة مسبقة لأتعابهنَّ، وفي مواقفهم الجميلة المليئة بالحب بصمتهنَّ فيهم ونتيجة مستعجلة لغرسهنَّ.
هنَّ يجدنَ في تجاوز تحديات عملهنَّ الشاق التي لا تنتهي أكبر نجاحاتهنَّ وشعورًا بالزهو يعدل أو يفوق شعور الموظف الذي أخذ لتوه ترقية أو زيادة على أتعابه، لأنهنَّ يتعاملنَ مع إنسان لديه إرادة تختلف في كثير من الأحيان عن إرادتهنَّ، ويبنينَ نفوسًا سوية قدر المستطاع سليمة من التشوهات وسط عالم مليء بالانحرافات، فهنَّ يخضنَ تحديات داخل تحديات داخل مقاومة ممَّن يربينَ، كما تتطور هذه المقاومة مع زيادة عمر الأبناء وخبراتهم وأصدقائهم فأين السهولة في كل هذا؟
لا أجد حلاً في كل ما ذكر أفضل من تغيير تلك النظرة الظالمة للمرأة (ربة المنزل) التي فضلت التركيز على ما بداخل مملكتها عن توجيه دفاعاتها وصرف طاقتها خارجه، مع لفت النظر إلى زيادة إمكانياتها والالفات لنفسها وتطوير ذاتها وقدراتها، مع الاحتفاظ بكافة حقوق المرأة العاملة التي تبذل مجهودًا مضاعفًا خارج المنزل ربما لتصل إلى التوازن بين الداخل والخارج لكن التركيز على شيء محدد كثيرًا ما تكون نتائجه أفضل والأمر لا يمكن اعتباره منطبقًا على الجميع.