بقلم : الصاحب الحلبيفي ظلال أشجار الزيتون، على التربة الحمراء، تربّعوا… أسرة كبيرة هنا، وأسرة صغيرة هناك، جماعة من الشباب، كومة من الحقائب، شاب متأنق… شباب متربون… تدخين… اتصالات بلغات عدّة… شتائم… ضحكات… بكاء أطفال…مشهد مألوف على الحدود التركية، على مبعدة من معبر باب السلامة الحدودي.عند الانطلاق من “الكراج الميداني” في حلب المحررة، القابع في زاوية ميتة، مختفياً عن أعين البراميل القاتلة؛ كان الاتفاق صريحاً؛ “نريد السفر إلى تركيا عن طريق التهريب!”، تدفع مئتي ليرة سورية زيادة عن أجرة السفر إلى معبر باب السلامة… نحن نوصلك إلى الحاجز… تركب سوزوكي بخمسين ليرة، يوصلك إلى المهرب، الذي يقطّعك الحدود، ليتسلمك المهرب التركي الذي يوصلك إلى السيارة، التي تأخذك إلى كراج كلس. صرت بتركيا، “الشغلة سهلة”…يبدو أنها فعلاً “شغلة سهلة”! تدفع المبلغ في الكراج الميداني، صاحب “المكتب” يأخذ من السائق مبلغاً عن كل راكب، تلفّتَ حوله… يبدو أنه مكتب افتراضي، لكن السائق دفع المبلغ لشاب تبدو عليه علائم “القبضايات”، بعد أن توسّل تخفيضاً، ثم انهال بسيل من الشتائم المقذعة… بعد انصراف “القبضاي” طبعاً.سرعان ما مرقت السيارة بين ركام الأبنية المهدمة وبقايا السيارات المحطمة، متقافزة ككرة بلهاء لتجاوز حفر الشوارع التي خلفتها براميل الحقد والموت. مرّوا بحقول زيتون في الريف قلعت البراميل أشجارها، وصنعت حفراً كبيرة في تربتها.كان مدعوّاً إلى مؤتمر كبير في استنبول، وقد استعدّ جيداً وحضّر عدداً من الملفات والعروض والإحصاءات، فالقوم لا يعرفون أن الحياة مستمرة في مدينة حلب المحرّرة، وهو يريد أن يثبت لهم أنها موجودة، وأنّ أهل حلب ثابتون برغم حقد النظام ووحشيته، وبرغم صواريخه وبراميله. يريد أن ينقل معاناتهم إلى العالم، يطالب باحتياجاتهم، يتكلم باسمهم، ثم يعود إليهم.أعلن السائق انتهاء الرحلة، ونزل الركاب، تفتيش سريع بحثاً عن الدخان! ثم إلى السوزوكي… ثم إلى الحدود.المهرب شاب حدث السن، أحرقته الشمس؛ يتربع تحت زيتونة، وبيده هاتف “تركي”، كان ينسّق مع المهرب التركي، خط الحدود قريب، لا يتجاوز بعده مئتي متر.وفجأة هتف المهرّب: يالله تحركوا! أسرع القوم يحملون أمتعة وأطفالاً وحقائب، ويجرون في الأرض الزراعية. غاصت قدماه في التراب وصار حذاء “المؤتمر” الثمين ترابي اللون، لكن المهم هو حضور المؤتمر، وتأدية الرسالة.فجأة هتف المهرّب بهم: ارجعوا ارجعوا، العسكري موجود. عادوا قليلاً وقرّر هو أن يتابع، نادى عليه عسكري الجندرمة، ربما كانت شتيمة، لكنه استمر، وشجّعه المهرّب السوري: “روح لا تخاف، ما بيضرب!”، لكنه تراجع مع أول طلقة في الهواء من الجندرمة.عاد القوم أدراجهم إلى أشجار الزيتون، ثم انتقلوا إلى نقطة تهريب أخرى، يحملون أمتعتهم وأطفالهم وحقائبهم. اقتربوا من الحدود، ركضوا بسرعة، طلع لهم الجندرمة، عادوا راكضين…وأخيراً بعد ساعات من لعبة القط والفأر، في نقطة من نقاط التهريب، اختفى العسكري فجأة، فصعدوا التل، وعبروا السلك الشائك، وانحدروا في الخندق، بدا الخندق سحيقاً وجانبه الآخر شاهقاً، سبقه في الصعود شاب مدّ يده وساعده، لامست قدماه الأرض التركية، وبدأ الجري المحموم باتجاه المهرب التركي قبل عودة الجندرمة، تلقاهم الفتى التركي المهرّب بجلافة… رماهم في السيارة كالغنم… وانطلق في سحابة من الغبار الأحمر.كانوا يدفعون المعلوم عند كل مرحلة، إلى أن صاروا في سيارة “كلس”، كان الحماس للمؤتمر قد تلاشى، وحلّ محلّه سؤال كبير؛ لماذا؟المجرمون من أزلام النظام يستقبلهم أصدقاء الشعب السوري على الحدود وفي المطارات، والأحرار يهربون من الجندرمة كما يهرب الفئران من القطط. والسبب؛ إنهم لا يستطيعون الحصول على جواز من النظام… مطلوبون بتهمة الكرامة والشرف. إنها لعبة القط والفأر والكلاب.