لا يمكن أن تجزم بصورة قاطعة بأي شيء عندما تكتب في السياسة، فكل التوقعات والتحليلات السياسية مهما بلغت دقة المنهجية المتبعة فيها والمعلومات التي تُبنَى عليها تبقى محض تكهنات إلى أن تحدث.
ولكن كل ما يجري على الساحة السورية منذ بداية شباط الماضي كان يشير إلى هذه اللحظة، رسم حدود جديدة لسوتشي تضمن السيطرة على جميع المواقع الحيوية بشكل تدريجي وإبعاد تركيا عن طريق مفاوضتها أو ابتزازها حتى حدود اتفاق أضنة المُعدَّل، فكما أن روسيا تريد تعديل خريطة سوتشي فهي لا ترى مانعًا من تعديل خريطة أضنة، بما يجعل تركيا تشعر ببعض المكاسب، لكن يبدو أن كل ما يجري في سورية يتشكل بطريقة مؤقتة، ينتهي عمره الافتراضي عندما تتاح الفرص لإنهائه والتقدم من جديد.
يبقى حشد القوات التركية في الداخل السوري هو لتحسين شروط التفاوض، والضغط على روسيا بتدمير قوات الأسد القريبة من النقاط التركية، ورفع الجاهزية لمؤازرة النقاط المحاصرة إن استدعى الأمر وتم استهدافها بشكل مباشر، وتركيا تعلم أنها في حال دخول الحرب ستكون خسائرها كبيرة مقارنة بالمكاسب التي ستحصل عليها، كما أن موسكو تعلم ذلك أيضًا، فالمواجهة العسكرية بين البلدين لو حدثت فإنها لن تكون بشكل مباشر على الإطلاق، سيبقى النظام السوري يمثل روسيا في استهداف الأتراك، وسيكون الجيش الوطني مُمثِّلاً لتركيا في استهداف الروس إن اضطرت أنقرة لذلك، وسيجري الانتقام من الحلفاء في كلا الفريقين، وستسمر المفاوضات للوصول إلى حل سياسي تُرجح فيه كفة المُتقدِّم على الأرض.
منذ اللحظات الأولى للمهلة حتى اليوم، لم تحسم تركيا إستراتيجيتها القادمة، وماتزال بحاجة مهلة جديدة، هي ما أنتجه الاتفاق مع الروس كتهدئة من أجل أن تتابع تركيا مفاوضاتها مع الناتو، بينما ستفرض روسيا عدم الانسحاب من المناطق الجديدة على خلفية التهدئة، وستستفيد روسيا من نشر قواتها جنوب M4 لإحراز تقدم جديد بدون قتال، وستساعد النظام على دخول المنطقة شيئًا فشيئًا.
نفَّذَت تركيا جميع ضرباتها المعنوية التي أرادتها لاستعادة هيبة جيشها في المنطقة، وأجبرت موسكو على التفاوض بجدّية، وهما الهدفان المباشران لتحركات ما بعد المهلة، أمّا بقية التفاصيل فستحددها المصالح المتبادلة بين الدولتين، بينما تبدو المعارضة جنود الشطرنج التي تتقدم ببطء لتكون فريسة للأعداء من أجل حماية القلاع والمملكة والفيالق المهمة.
منذ اليوم الأول للمهلة حتى اليوم أحاول أن أكرر في كل مقال العبارات نفسها فيما يخص قوات المعارضة، وهي مالم تقم هذه القوات بحركات غير محسوبة وخارج الخطة المرسومة لها، ستبقى مجرد بيادق للحماية، علينا أن نتقدم في العمق تاركين الأرض وراءنا مكشوفة لنجبر الحلفاء على التحرك، وتغيير قوانين اللعبة، وإلا نحن خارج الحسابات كلها في قضيتنا المركزية.
المدير العام | أحمد وديع العبسي