نور القدور |
نثرت ما علق في يدي من ذرات ترابٍ على قبره، وواسيت نفسي بالقول “ولا تدري نفس بأي أرض تموت “، ولكنك بالنسبة إلي لست أيّ نفس، أَمَا وعدتني بأنك لن تموت إلا في مسقط رأسك؟ آخر مرة قلتَها لي كنت ممددًا على أريكة مهترئة عزّ عليّ أن تحتضنَ احتضارك بكل قساوتها وأن تشهد لحظات حياتك الأخيرة، تقلَّبتَ ليلتها كثيرًا وكان صوت أقدام الأريكة يهدد بالانهيار مع كل حركة لجسدك الهزيل.
ما بك يا أبي؟ سألته، فقال: يضيق نفسي من الرطوبة، فقدت قدرتي على الإجابة فليس لدي مال لأصطحبك إلى الطبيب أو أنقلك إلى غرفة أفضل، فأمس ترجيت صاحب الغرفة ليبقينا هنا بدون مقابل مادي حاليًا.
قاطع شرودي وعجزي وقال: “لا بأس فأنا لن أموت إلا في سراقب مهما حصل، ولن أرقد إلا بجانب أخوتي أنسيت أني اشتريت قبرًا بجانبهم يا أحمد؟ لن أكلفك ثمن شراء قبر آخر يا بني” شعرت بالطمأنينة ولا أظن أنه سيموت هنا، فروحه معلقة بين أشجار الكرمة لن تعود روح الفلاح العنيدة إلى خالقها قبل أن تعانق الأرض.
عندما ساءت حالته نقلته إلى مستشفى عام بلا تكلفة. “كيف استطاع احتمال هذا الألم يا الله!” قال الطبيب؛ تشمع كبده بالكامل؛ وضعه الصحي حرج للغاية، بدأت تغيب عيناه بصمت كأنه الغروب الأخير، نظرت إلى عروق يده القاتمة، فرأيت تلك الندبة نتيجة تقليم أشجار العنب، شددت على كتفه وهمستُ: “لا تخلف بوعدك، لا يليق بك أن تموت في هذا المشفى الباردة وحيدًا.”
شعرت بالعجز وخرجت لأعاود الاتصال بكل أقربائي الذين تجاهلوا اتصالاتي، فرميت كرامتي أرضًا وعاودت الاتصال بكل من أعرف على أمل أن يساعدوني بإجراءات النقل عن طريق معارفهم أو حتى بنقله إلى مشفى خاصة، استجاب شخص أو اثنان منهم وحاولوا مساعدتي، إلا أن انتشار فيروس كورونا حال دون نقله لأي مشفى خارج إدلب.
شاورت الطبيب فقال: “الأعمار بيد الله، لكنه لن يحتمل أكثر من أسبوع” ما أسرع تكيفنا مع المصائب! فبلحظةِ نطقهِ لحقيقة وضع أبي بدأت أفكر أين سأدفنه؟ هل سأفتح له بيت عزاء؟ من سيحضر العزاء أصلاً؟ كيف سأشتري له قبراً؟ كفن؟
لم يحتمل الأسبوع، دخل بغيبوبة أبدية المدى، مات الربيع بأول أسابيع الفصل، نزحت الروح بلا عودة، غطوا وجه الشمس بشرشف أبيض فانحجب النور عن مقلتي، خرّجوه من المشفى جثة بلا حراك، كم من الصعب أن ترى من علَّمك المشي ممدًا أصفر، هامدًا كجذع شجرة مرمي على أرض مقفرة؟! عدت به إلى المكان الذي قضى به آخر أيامه، فغصَّ صاحب المزرعة الذي وهبنا غرفة ضمنها وقال: “على روحه الرحمة، سأسامحك بأجرة البيت سابقًا فأبوك أخبرني يوم زارني آخر مرة بأن أعطيه وقتًا قصيرًا لأنه سيرحل قريبًا وعندما وافقتُ قال لي: عدني كل فترة فأنا هنا غريب” غلبني البكاء وخارت قواي، أهذا ما قاله؟ كان يعلم أنه يموت؟
لا يليق بك موت النزوح يا أبي، ترى هل يعلم بأن أحدًا لم يصلِّ عليه؟ سأفتعل ضجة فوق قبره ليظن أن ذاك صوت رحيل خطى المصلين، ماذا لو كانت روحه تشاهدني وحيدًا هنا الآن؟ هل خاطر الأموات يُكسر؟ حل الظلام وأنا واقفًا على عتبة قبره، أتيت بحجرتين ووضعتهما على القبر بهدوء كأني لا أود أن يشعر أني أخاف إضاعة قبره فعلمته بالأحجار، ومضيت، تعثرت أقدامي بأحجار كثيرة، ترى هل هي علامات فوق قبور نازحين آخرين؟ ترى كم من قبر هنا ضائع؟ ترى هل من يموت في النزوح يحاسب كما يحاسب من يدفن في أرضه؟ عندما أموت سأوصي أبنائي أن يدفنوني بقربك، نعم سأصنع من مرقدك مقبرة لأحفادك، أقسم أني لن أتركك ضائعًا، إلا إن كان أمامنا رحلة نزوح أخرى وحسدناك على الموت في أي أرض ضمن إدلب يا أبي.
1 تعليق
abobahaa
رائعة….
ك مصائبنا