صهيب إنطكلي
لطالما أشعل الحنين إلى الدّيار قلوب المهاجرين أو المهجَّرين قسرًا من ديارهم وأموالهم؛ إنّك تلمح آثاره بين كلماتهم وآهاتهم وحتّى حركاتهم وسكناتهم؛ ولنا في المهاجر الأوّل صلّى الله عليه وسلّم أسوةٌ حسنةٌ؛ أطلّ عليه السّلام في يوم الغياب على مكّة ولسانه يردّد بألمٍ عظيمٍ: “والله إنّك لخير أرض الله؛ وأحبّ أرض الله إلى الله؛ ولولا أنّي أُخرجت منك ما خرجت.”
ما استحضر هذه الذّكرى إلى روحي طغيان الحنين وأساليب التّعبير عنه هنا في مدينة عفرين الّتي هُجّرتُ إليها؛ كما كلّ مُدن الشّمال الّتي احتضت المهاجرين؛ كانت آخر سُكناي في ريف حلب الغربيَّ؛ فكنّا آخر المُهاجرين إلى هذه المدينة الصغيرة الّتي تضخّمت جدًّا حتّى كادت تختنق بنا؛ فلقد سبقنا الكثير من أهل غوطة دمشق؛ ومن حمص وأريافها؛ وحماة وأريافها؛ ومن إدلب الكثير الكثير.
أناسٌ يشتمّون عبق مدنهم الأم في استعادة ذكرى صورةِ التقطوها يومًا هناك على سفح رابيةٍ؛ أو مع صديقٍ استشهد؛ أو في مظاهرةٍ شاركوا فيها؛ ويحِنّون مع كلمات أبٍ أو أمٍّ كبيرَين بقَوا هناك؛ فيتلمّس الأبناء ريح بيوتهم وعبق طفولتهم بين حروف التّواصل.
ربّما ليس لأغلب المهجّرين إلى الشّمال هنا موهبةً أدبيّةً كالشّاعر الّذي تفجّر حنينه شعرًا فقال:
أيّها الرّاكب الميمّمُ أرضي اِقرَ منّي بعضَ السّلامِ لبعضي
إنّ جسمي – كما تراه – بأرضٍ وفؤادي ومالكيه بأرضِ
ولكنّهم يعبّرون ببساطةٍ شديدةٍ؛ وربّما كانَ أظهرها لوحات الإعلانات؛ فإنّك إذا مشيت في شوارع عفرين تستطيع أن تعرف المهاجرين من أسماء متاجرهم؛ فلوحةٌ فوق مكتبةٍ كُتب عليها: مكتبة الحمصي؛ ومحلّ بيع كُتب عليه: خضار وفواكه حلب؛ وورشةٌ الغوطاني لإصلاح السيّارات؛ وملحمة حماة؛ ومحمصة دوما؛ وهكذا ترسم لوحات الإعلان خريطة المهاجرين مزركشةً وموقّعةً من كلّ المدن والبلدات الّتي ذاقت الأسر بعد حرّيّةٍ.
لفت نظري البارحة وأنا أسير في ليل عفرين المقمر؛ محلًا لبيع الأطعمة فصّل صاحبه باسمه حنينًا؛ فهو لم يكتب مثلًا: (مطعم الغوطاني) نسبةً إلى الغوطة؛ وإنَّما خصّصَ أكثر ليذكر بلدَه فكتب: (مطعم الغوطاني الزّملكاني)؛ نسبةً إلى مدينة زملكا الّتي هجّر منها؛ سلّمت عليه؛ فردّ بلهجته التّي تحمل طعم دمشقَ؛ ظنّني زبونًا؛ سألته عن اللوحة؛ شعرتُ بكلماته تسري من روحه التّوّاقة؛ قال: “والله؛ سميتو هل اسم؛ من شوقي لزملكا؛ واللهِ ما في بلد بتشبهها؛ معلّم.. هي من أحلى بلدات الغوطة؛ والله أحلاهم”
شعرت بصوته يهتزّ شوقًا إليها؛ وألمًا على فراقها القسري؛ سلّمت عليه وانصرفت؛ مشيت في الليل وحدي؛ وددت أن أبوح لصاحبي عن حنيني أنا أيضًا؛ أن أخبره أنّه ليس وحده أبدًا في قصة الحنين إلى المدينة الأمّ؛ أردت أن أقول له: إنّي اشتقت لحلب؛ اشتقت لحيّ صلاح الدين الّذي فيه نشأت وفيه تعلّمت أبجديّة عشق البيت والحيّ والمدينة العتيقة؛ فمنذ عام ٢٠١٢ غادرتها مع أهلي؛ كنت أقول لنفسي: (أسبوعٌ فقط أو أسبوعان وأعود) ؛ تركنا كلّ أغراضنا هناك في بيتنا وخرجنا بثيابنا فقط؛ لأنّ الهجر الطّويل لم يخطر لنا حينها ببال؛ مرّ الأسبوعان سريعاً ولم نعد؛ ثم مرّ عامانِ ولم نعد؛ ثمّ توالت الأعوام طويلةً ثقيلةً؛ ونحن ننتقل من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر؛ حتّى نسينا ملامح المنازل لكثرتها؛ وحنينا أبدًا لأوّل منزل؛ وألفنا التّرحال من بلدةٍ إلى أخرى؛ فلا نكاد نعرف الجيران حتّى نهجرهم؛ وها أنا ذا بعد تسع سنواتٍ أسير في شوارع عفرين؛ أحنّ إلى هناك وأردّد قول نزار: (إنّ حلب دائمًا على خريطة عواطفي، تختبئُ في شراييني، كما يختبئُ الكُحلُ في العينِ السوداء، وكما يختبئ السُّكَّرُ في العنب).