بقلم : رئيس التحريرأيها الإخوة القراءتخيلوا أنَّ هناك إنسانًا رأسُه في إستانبول، ويدُه اليمنى في باريس ويدُه اليسرى في ضواحيها، وقلبُهُ في دمشق، هل يمكنُ أنْ يعيشَ فضلًا عن أنْ يعملَ وينتج؟ هل يمكن أنْ تُولدَ الكلمةُ منفصلةً عن صوتها وحروفها؟ هل رأيتم وردةً استطاعت الفصلَ بين لونها وعطرها؟ ربّما تقولون هذا مستحيل، ولكنَّ حكومتَنا المؤقتة الرشيدة تعاملت مع الموضوع بأريحيّة، وراحت تشرحُ كيفَ يمكن أن تُزرعَ السنبلةُ في الصّين وتنمو في حمص وحلب، وكيف يمكن أنْ تُمطرَ في برلين فترتوي عروقُ الفرات.بهذه الرومانسيّة تحاول الحكومة المؤقتة أنْ تبرّرَ وجودها خارج حدود الوطن، فهي تستطيع أنْ تدكَّ النظام بخطاباتها وهي تتنقل من فندقٍ إلى فندق، وتستطيع أنْ تزلزلَ القصرَ الجمهوريّ بتصريحٍ لها تُذيعه شاشات الرائي، وتقدر أنْ تحتضنَ مواطنيها عبر الأثير وتصافحهم وهي بعيدةٌ عنهم آلاف الكيلومترات.والغريب أنَّ حكومتنا الشاعرية تشتاقُ إلى وطنها وتحنُّ إليه، وتسكبُ كلَّ يومٍ غيمةً من الدموع، وتكتب كلَّ صباحٍ قصيدةَ شعرٍ غنائيّة وهي ترشف قهوتها التّركية، وترسل مساءً رسائلها الغراميّة، مُوْهِمَةً أنَّ رجالَ قبيلتها حرموها من اللقاء بحبيبها الوطن، والوطنُ يفتح ذراعيه للجميع، ولكنَّها تُؤخّر رجلًا وتؤخر أخرى، ليتبيّنَ أنَّ حبَّها حبٌّ من طرفٍ واحد، وأنَّ الوطنَ متزوجٌ من سكانه، يحبّهم ويحبّونه، وحالته مستورة، ولم يسمعْ يومًا باسم المرأة المؤقتة.فمتى ينتهي هذا الغزل التقليديّ المفضوح؟ ومتى تكتشف الحكومة أنَّ الزّواج عن بُعْدٍ لا يُنجبُ أطفالًا ولا يُحَرّرُ بلادًا ولا يكسرُ قيودًا؟ إنَّ المنطقة المحرّرة تمتدُّ على مساحاتٍ واسعةٍ تتسع لكلِّ الكروش المتدلّية، فتفضلوا يا رجال الحكومة وادخلوها، ولكنْ يبدو أنَّ أرواحَكم أغلى من أرواحنا وأولادَكم أثمنُ من أولادنا، ودماءَكم التي تجري في عروقكم زرقاءُ غيرُ دمائنا.والمُضحك أنَّ بعضَ المهرّجين يُشبّه حكومةَ (خلف وخليف) بحكومة شارل ديغول مُرَكِّزًا على قاسمٍ مشتركٍ هو الوجودُ خارجَ الوطن مع العلم أنَّني لستُ معجبًا بديغول أو أمِّ ديغول، ولا يهمّني ولا يعنيني، ولكنّه سينتفضُ من قبره إنْ سمعَ هذا التشبيهَ الغريب، وسيرفع آلافَ القضايا على كلِّ مَنْ شوّه صورته وشبّه حكومتنا بحكومته.لقد استطاع المسيو شارل أنْ يهربَ إلى بريطانية مع مجموعةٍ من الجنود بعدما وقّع الفرنسيون وثيقةَ استسلامهم لهتلر التي تضمنت تقسيم البلاد على نازيّة وفاشيّة، ثم نصّبَ نفسه قائدًا للمقاومة الفرنسية التي أصبحت في عام 1944 تُسمى بالحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية. فهذا الرّجل قاد مقاومة بلاده في الحرب العالمية الثانية، وخدم فرنسة حتى بات رمزًا من رموزها، أما حكومتنا فقادت ثورة الشام إلى دهاليز أعدائها، ليخرجوها عن دينها وعاداتها وتقاليدها، وباعوا جسدها بالكيلو غرام لتجّار الجسداستطاع ديغولهم وهو في لندن أنْ يُلهبَ قلوبَ الفرنسين ويدفعهم إلى الثورة على الفاشيين والنازيين من خلاله خطبه التي يفتخر بها الفرنسيون كخطبته الشهيرة المسماة 18 حزيران أمّا ديغولاتنا الوهميّة فراحت تشتري العبوديّة وتفصل النازيّة الجديدة على شكل عباءةٍ عند خياطة اسمها أمريكا.لقد تنحّى شارل عن منصبه عام 1969م عندما خرج الفرنسيون في مظاهرات معارضة له، أمّا حكومتنا المبجّلة فتسمع هتافات السّباب وتتلقى برقيات الهجاء، و(يُمسح بها الأرض) كلَّ يوم، ولكنَّ أحدًا لم يكتشفْ إلى الآن كيفَ يتحوّل الهجاءُ إلى مديحٍ وغزل في ديارنا العربيّة !!