الكلمات تغير التاريخ، والكلمة أقوى من الرصاصة في المثل السائد تعبيرًا عن عمق تأثير الأفكار والكلمات التي تحملها في الإنسان، ولكن هل يبدو هذا صحيحًا دائمًا؟!
في الحقيقة التاريخ نفسه يخبرنا بأن الأمر مختلف، فالرصاص تمكن من أصحاب الكلمات قبل أن يتفوهوا بها أصلاً، والكثير من الأفكار والكلمات والكتب والحضارة ضيعتها القوة الغاشمة التي فتكت بها حرقًا وبأصحابها قتلاً، فحرمتنا من إنتاج فكري عظيم، لم يُكتب له اجتياز الماضي والوصول إلينا، وفي بعض الحالات القليلة والمؤثرة وصلت الكلمات بدون أصحابها، واستطاع التاريخ تجاوز القوة في نقل الفكر عبر عصوره المختلفة، ولو أن تلك الأفكار لم تكن لتصل أبدًا في دورتها الثانية أو الثالثة لو لم تتعهدها قوة بالحماية والاعتناء.
لا يمكن لرومانسية الأفكار أن تتخطى أفواه أصحابها إن لم يكن لها قوة تحميها، وتتعهدها، وليس من أسباب للتراجع الحضاري والإنساني أكثر من الاعتماد على التنظير والتفكير في غياب أسباب القوة والمنعة التي تستطيع حمل الأفكار وإنفاذها، ولم تنتشر التيارات الفكرية المختلفة إلا بعد أن تبنتها دول عظمى وأنظمة قوة كبرى، فلم يكن أحد ليسمع بماركس مثلاً، لو لم يتبنَ الاتحاد السوفياتي نظريته.
وإن ما يريح الطغاة والمستبدين أن تكون الدعوة ضدهم في إطار الأفكار فقط، فإذا فشا أمرها قليلاً وخافوا أن تتحول إلى قوة اقتلعوها من جذورها والناس يتفرجون، وإذا أزعجتهم قتلوا أصحابها، وأخطر الأفكار تلك التي تدعو لصناعة القوة التي تحميها في مقدماتها، لذلك يسارع الطغاة لمحاربتها، وإذا غفلوا عنها اقتلعتهم واستطاعت تحقيق التغيير …
اقرأ أيضاً: القوة أم الشرعية – كيف يبدأ العمل السياسي؟
يحكي لي جدي حكاية عن أحد الأغنياء وهو ينقل المياه من النبع على حماره، فيضع في أحد جانبي خرج الحمار جرتين من المياه وفي الخرج الآخر حجرين كبيرين ليحقق التوازن، وكان أحد الرجال المساكين يشاهده فيستعجب فعله، فقال له: لو وضعت في كل جانب جرة أليس هذا أفضل لك، فكّر الغني قليلاً، ثم قال: نعم، وبدأ بإخراج الحجرين، ثم توقف، وسأل الرجل المسكين، هل لك مال أو منزلة أو فضل معروف بين الناس؟ فأجابه الرجل لا، إنما أنا فقير مسكين لا أملك شيئًا، فأعاد الحجرين إلى مكانهما وقال له: لو كان فيما تقول خيرٌ لما كان هذا حالك.
المدير العام | أحمد وديع العبسي