بقلم جنى حمدان
سؤال مظهره خادع يوهمك بالعبثية أو التفكه أو السخرية، ولكن بإمعان النظر والتدبر تكتشف عمقه السحيق.
سأناقش هنا افتراضين يقضي الأول بأولوية أن يكون الموظف للكرسي، ويقضي الثاني بأن يكون الكرسي للموظف، الافتراض الأول نموذجي مثالي موافق لما ينبغي أن يكون عليه الحال، وأمَّا الافتراض الثاني فواقعي إلى حدٍّ بعيد، يحاكي حالنا ويتماهى مع ما نشاهده في حياتنا اليومية. (أعني في معظم الدول العربية). فما ينبغي أن يكون: هو أن يكون الموظف للكرسي بمعنى أنَّه ينبغي لنا أن نعرف ما الذي ينقص دولاب العمل في الإدارة التي خلا فيها الكرسي؟ ومن يستطيع أن يكمل هذا النقص؟ فلو أنَّنا حددنا ما يحتاجه العمل في هذه الإدارة وهو الإبداعية مثلا لعرفنا أنَّنا بحاجة إلى موظف مبتكر مبدع له رؤية وشغف، ولقفز إلينا سؤال مهم لاحقا: وماذا نقصد بالإبداعية والابتكار؟ هنا وجب علينا تدوين مقصودنا بهما وتقييده بالكتابة ليبدو ماثلا لأعيننا، وليسهل علينا العمل بمقتضاه.
ينبغي أن نبحث عن شخصٍ مرنٍ متكيفٍ طلقٍ فكريا ولفظيا، ينفر من التقليد، مولعٍ بالتغيير والتجديد، يوفر حلولا متعددة للمشكلة الواحدة، يتردد يشك، ذكي الفؤاد، متعدد الميول، لا ينقاد بسهولة، يحتمل الانتقاد، يعيش مع أفكاره ويفصلها ويحللها، يستدل عليها ويستنتج منها، ذي خيال عريض، لا يتدخل في شؤون الآخرين ولا يسمح لهم بالتدخل في شؤونه، مقدامٍ، صبورٍ مثابر، يستمتع بالجديد ويحب اكتشافه، مبادرٍ واثق بنفسه وبما يقدمه، .يحب التنافس والتحدي، إيجابي ومتفائل. ثمَّ لابدَّ من الإجابة عن السؤال اللاحق: وأين نجد مثل هذا؟ وما أدواتنا لقياس كلِّ ذلك؟ وكيف نتمكَّن من قياس هذه الصفات عند المتقدمين لشغل الوظيفة حين نعلن عنها؟ ترى هل علينا حينئذ أن نتقيد بدرجة علمية معينة أم سن معين؟ أم سنوات خبرة؟ أم مؤهلات ما؟ وهكذا….
الافتراض الثاني: في كثير من الأحيان لا يعين الموظفون وفقا للحاجة، ولا يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وإنَّما يُنظر إلى عدد الوظائف التي تسمح بها الميزانية، أو تلك التي يجب علينا اعتمادها وفقا لإملاءات وضغوط داخلية أو خارجية، ثمَّ تكون الطامة الكبرى حين نريد شغل هذه الوظائف فتظهر حينئذ المحسوبية والرشاوي التي تجرُّ معها إلى المؤسسة الكثير من غير المؤهلين الذين يجلسون على كراسي لم تعد لهم ولا هم معدون لها، فكم من مدير لا يعرف عن الإدارة شيئا، وموظف علاقات عامة لا يحسن غير إفساد العلاقات والإساءة إلى سمعة مؤسسته بجهله تارة وسوء خلقه أخرى، وغيرهم كثير…
ثمَّة الكثير من العاطلين الذين لهم مسمى وظيفي ورواتب مقررة، لا يعرفون لماذا هم هنا ولا ماذا يفعلون، ولكنَّهم لا يُسألون! وكم من هو ناقم على وضعه، يكتم حسرته على إمكانياته ومؤهلاته وسنوات دراسته التي ضاعت هدرا في مكان غير ملائم له على الإطلاق! وكم من مغبون يائس لم يجد من يستمع إليه! وضعيف لم يجد من يقويه! وغير مؤهل وُضع في غير مكانه لم يخضع لأي تدريب يمنحه بعضا مما يفتقده! يخيل إليَّ أن نصف الموظفين في كثير من المؤسسات لو غابوا ما تأثر العمل بغيابهم، بل يكون أحيانا غيابهم أنفع، فتخلو المكاتب وتتسع، ويكون الجو أنسب للإنجاز حين تغيب الطاقة السلبية التي ينفثونها في المكان.
وهناك زاوية مهمة تتعلق بهذا الافتراض وهي أنَّ الكرسي للموظف حياته، لن يتركه ولن يخلع عنه خاصة، إذا كان من كراسي الصفوة؛ ليس من الموظفين بل من الوظائف! ولكن تلك قصة أخرى.