باسل عبود |
تعرّف موسوعة علم الاجتماع الثورة بأنها “التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع ، تلك التغييرات التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهريًا وجوهريًا من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وإيدلوجية وأهداف الثورة.”
ربما الجواب البدهي لعنوان المقال، سيعقب الاستبدادَ نظامٌ يرسخ مبادئ الحرية والديمقراطية، لكن هل آتت الثورات أُكلها وأنتجت نظامًا يتوافق مع ما قامت لأجله دون مطبات وتحولات كثيرة؟!
إن تاريخ الثورات حافل بالشواهد التي تدل على تأثر قوى الثورة بالأنظمة المستبدة التي قامت ضدها، وفي بعض الأحيان كانت الثورات تنتج أنظمة أشد ظلمًا وتعسفًا من التي قامت ضدها، وفي أحيان أخرى استطاعت بعض الثورات إعادة تصحيح مسارها والعودة إلى مبادئها بعد فترة تعثر تطول أو تقصر.
فالثورة الفرنسية التي تُعدُّ أم الثورات في أوروبا والعالم، عاشت مخاضًا طويلاً (١٠سنوات) لتستطيع إنهاء الحكم الملكي، ثم مرت بمرحلة الإمبراطورية زمن (نابليون بونابرت) وهي تخالف ما قامت لأجله، لكنها سرعان ما عادت إلى قيمها في الحرية والمساواة والإخاء لتفتح الباب بعدها لدول أوروبا قاطبة للتخلي عن الملكية والتحول نحو الديموقراطية.
وربما المثال الأوضح الثورة البلشفية في روسيا، التي قامت على نظام القياصرة القمعي وجاءت بالاتحاد السوفياتي الذي حكم روسيا وباقي دول الاتحاد بالحديد والنار سبعة عقود من الزمن.
كذلك الحال في إيران، فالثورة الإيرانية استبدلت نظام حكم الشاه بالملالي لينتقل الاستبداد من عباءة العلمانية إلى عباءة الدين.
ولا تبدو ثورات الربيع العربي بعيدة عن هذه المعادلة، فباستثناء تونس التي كان نظامها يُعدُّ واحة من الديموقراطية مقارنة بباقي دول الثورات، لم تحقق أي دولة النظام الذي كان ينشده ثوارها، فنظام السيسي في مصر نسخة معدلة وأكثر سوءًا من نظام مبارك، كذلك نظام حفتر في ليبيا هو امتداد لنظام القذافي، وفي اليمن تمزقت البلاد بين أنصار الشرعية أنفسهم وبين جماعة الحوثي أتباع إيران.
هناك ضخ إعلامي واقتصادي كبير لمصلحة الثورات المضادة، لكن العائق الأكبر يبقى في التعامل مع إرث الاستبداد الذي تشرَّبه الثوار من حكامهم وصار يتحكم بأفعالهم في محاربة الاستبداد، فعلى صعيد الثورة السورية لا نجد أي تداول حقيقي للسلطة في صفوف المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، فالكتل المتصدرة للمشهد السياسي هي نفسها منذ بداية الثورة مع تغيير بعض الأسماء أو انتقال الأسماء نفسها من منصب إلى آخر ضمن حلقة مفرغة، بل إن التداول يتم على أساس المحاصصة والكتل الموجودة، وهو ما مثل حالة من الإحباط لدى الحاضنة الشعبية، لأن أهم مطالب الثورة كان منذ البداية هو التداول السلمي وتحقيق الحرية، وكل ذلك يحدث ولمَّا يسقط النظام، فما بالنا بعد سقوطه.
أما على الصعيد العسكري، فقد خسر الثوار معظم المناطق المحررة نتيجة الخلافات والاقتتال بين الفصائل، وحتى في المناطق التي كانت محاصرة كان هناك قتال دامٍ لبسط السلطة من طرف ضد آخر، فالرغبة بالتفرد في الحكم أضاع العديد من الفرص التي أُتيحت للثوار لتقديم أنفسهم أمام المجتمع الدولي كقوة موحدة قادرة على إدارة البلاد وسد الفراغ في حال سقوط نظام الأسد، وبذلك قدم تفرقنا خدمةً كبرى للنظام، ليقول للعالم: إما أنا وإما الفوضى .
إن استمرار العقلية الثورية بشكلها الحالي نذير شؤم قادم، وحتى لو نجحنا في إسقاط النظام سنجد أنفسنا أمام حقبة جديدة من المعاناة سببها أن من ثار على الاستبداد لأجل الحريات، تطبع بذلك ولم يعد يرى الصواب سوى في دائرته، بل إن التجارب التاريخية تؤكد الانقسام باسم الثورة على الدائرة الثورية نفسها، لذا يجب علينا ألا نتأثر في صناعة نظامنا القادم بحربنا على الاستبداد فننتج غيره وننتظر ثورة تصحيح مسار، وقد علَّق أحد الإعلاميين السوريين ساخرًا: “عندما نجد قائد فصيل أو رئيس حزب أو مدير منظمة قدم استقالته، عندها يمكن لبشار الأسد أن يقدم على التنحي عن السلطة”.