واقع مؤلم جدا إذا ما رأيتها تقاسي معاناة لا نهاية لها، وتحارب مجتمعا بأكمله وهي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، لفقدها زوجها وتحملها مسؤولية أبنائها بمفردها، ففي ظلِّ هذه الحرب التي جرَّت الويلات علينا تعيش المرأة السورية أسوأ حقبة زمنية مرَّت بها بلا شك، حملت لها في طياتها الكثير من الصعوبات والأوجاع النفسية والاجتماعية وحتى الجسدية في بعض الأحيان، وهذا ما أثارني لأتطرق إلى الكتابة عن معاناة النسوة اللواتي فقدن أزواجهن في هذه الحرب
وحُمِّلن مسؤولية كبيرة.
لقد كانت المرأة ترعى أسرتها قبل فقدان زوجها الذي مزج حياتها بخليط من الأمل والقوة، لتكافح وتناضل في تربية أبنائها دون أن تحمل همَّ النفقات أو المتطلبات الخاصة بالأولاد والمنزل، أمَّا اليوم وبعد فَقدِ زوجها الذي ترك لها حِملا يهدُّ كبار الرجال في هذه الحياة المأساوية، باتت تلعب دورين معا دور الأم ودور الأب، فتولت إعالة أسرتها إلى جانب رعايتها، ونهضت بها من جميع نواحي الحياة الاجتماعية والأخلاقية، فهي تقوم بتدريسهم وتربيتهم، وتقدم لهم جميع حاجاتهم ومتطلباتهم متأملة أن يكون منارة حياتها وسندها عند كبرها.
هذه المرأة المعيلة لأسرتها لم تتوقف معاناتها عند فقدان زوجها فحسب، بل أضحت فريسة لذئاب المجتمع الذين لا يشبعون ولا توقفهم أخلاق، ولا يردعهم دين في غياب الضمير، وكأنَّ مجتمعنا عاد ليخضع تحت قبعة الاستغلال (الآغا) ممَّا جعل بعض النساء المعيلات أن يقدمن بعض التنازلات لأرباب العمل، علهنَّ يحظين في آخر الشهر بمبلغ من المال يسددن فيه رمق أطفالهن المتضورين جوعا والمنتظرين عودت أمهاتهم بفارغ الصبر، وهذه التنازلات التي يجبرها عليها ربُّ العمل هي أكبر خطر محدق بمجتمعنا قد توصله إلى الفساد الأخلاقي.
فعلا إنها معاناة قاسية في ظلِّ مجتمع لم يدع المرأة وشأنها، فقد باتت تصارع نظراته السلبية وكأنَّ الأقدار جرَّت إليها عارا وُصمت به حتى مماتها، أو كأنَّها من تسببت بقتل أو فقد زوجها، فهي إن عملت نالت منها ألسنة المجتمع الملتهبة بالتخلف والانحطاط الفكري، وإن التزمت بيتها ظنًّا منها أن تحد من نظرات وألسنة هذا المجتمع التي تلسعها، نامتْ وأطفالها فارغي البطون، وليت هذا كان الدواء الشافي للمجتمع.
وكانت المشكلة الأكثر ألما متجلية في النسوة اللواتي لا يملكن شهادة علمية أو حرفة يدوية تؤهلهم للعمل، لتقع مسؤوليتهن وأولادهن على عاتق الأهل، فتواجه هذه الفئة معاناة أخرى فوق معاناتها من خلال كلام الأهل وتوجيهاتهم بعدم العمل والخروج من البيت وما إلى ذلك، ناهيك عن منتهم بصرفهم عليها وعلى أولادها، تقول فاطمة وهي إحدى زوجات الشهداء:(اضطررت للزواج من أول متقدم لخطبتي لأتخلص من ضغوطات أسرتي ونظرات المجتمع السلبية التي سلبتني حريتي وحياتي ) لقد أوضحت تعابير وجه فاطمة بأنَّ زواجها كان بإجبار غير مباشر، من رجل لم تره مناسبا لها، لقد سجنها القدر بصورة لا تحتمل، وحتَّم عليها الانتحار النفسي والاجتماعي.
وأكثر ما زاد آلامي وأثار الحزن في داخلي أنَّ هذه الحالات أصبحت ببلدنا أكثر ممَّا نتخيل، لأنَّ هذه الحرب التي لم تبقِ ولم تذر نشرت في مجتمعنا مرضا تفشى في البلاد كلها، فكم من زوجة شهيد ومفقود ومعتقل! لقد فاقت أعداد العائلات الفاقدة لمعيلها 144000وهذا ما رأيته في إحصائيات 2015وهذا العدد مرشح للازدياد مع استمرار هذه الحرب.
وما يزيد معاناة هذه المرأة في هذه الحقبة السوداء هو أنت! أنت الذي تتفوه بكلمات تجعلها تخوض حربا ثانية مع الحرب التي نخوضها، فقبل أن تقذف هذه المرأة بلسانك وتحاربها، اسأل نفسك: هل تستطيع أن تكفل أبناءها بالمصروف والنفقات؟! عندها فقط قد يحق لك محاربتها، وهل تحتمُ على المجتمع في الإسلام أن يسلب حرية المرأة الفاقدة لزوجها؟ أم أنَّ المجتمع في الإسلام حثَّ على مساندتها ورعاية أطفالها؟ ألم يحثك قول النبي الكريم (أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار إلى إصبعيه السبابة والوسطة) فهنيئا لمن جاراه الرسول، وهنيئا لمن حفظ لسانه وساعد تلك المرأة.
أخي القارئ فلنكن قلبا واحدا ويدا واحدة تنهض بهذه المرأة وتساعدها في تربية أبنائها تربية تسمو بالأخلاق الحسنة والدين.
عائشة الكرمو