جاد الحق |
لا يكاد يمر يوم بالشمال المحرر دون جريمة تُبرِز تهتّك نسيج الأمن فيه، فإما خطف، أو تفجير، أو اغتيال، أو مشكلة بين أطراف مسلحة تُوقع قتلى وجرحى.
لعل من معالم تردي الوضع الأمني إرجاع كل خلل للعامل الخارجي، بمعنى آخر التعامل مع الخلل من زاوية واحدة ألا وهي الخروقات التي تسببها الأطراف الخارجية المعادية، رغم أن هذه الجزئية هي رأس جبل الجليد الطافي فوق الماء.
مواجهة الاختراقات الأمنية والفوضى لا تكون بملاحقة مفتعليها فقط، فظهور صف جديد من المجرمين والإرهابيين لن يستغرق وقتًا طويلاً لبقاء الظروف المولّدة والصانعة للمشكلة، لذلك أفضل سياسة لمواجهة الخلل الأمني هي تجفيف المستنقع المغذي لهذا الخلل.
بحالة الشمال السوري نسمع كل فترة من الجهات الأمنية عن ضبط خلية، أو تفكيك عبوة، أو اكتشاف سيارة مفخخة، وهذا لا شك جهد طيب يشكرون عليه، لكنه ببساطة لن يؤثر على السياق العام للوضع الأمني الذي تطلب معالجته أكثر من الحلول الأمنية قصيرة الأمد المقتصرة على المطاردة والتتبع واعتقال المطلوبين، ما نحتاجه هو العمل على ألا توجد بيئة تخلق أو تحتضن مطلوبين، وهذا ما يسمى بسياسة “تجفيف المنابع”.
الجريمة على اختلافها بالشمال المحرر لها عدة أسباب، سنذكر أهمها مع طروحات نظرية تحتاج للتفعيل بغية الحل:
1) تراجع القيم الأخلاقية والدينية:
حالة الحرب والتمزق والفوضى أدت إلى تراجع قيمة الدين والأخلاق بالمجتمع السوري، وتراجعهما له مظاهر سلوكية حادة واضحة للعيان، فصرنا نسمع عن جرائم من البشاعة والانتشار ما كنا نتخيلها، لكن ضعف الوازع الديني والأخلاقي ( حرام /عيب ) أدى إلى ظهورها، خاصة مع انتشار الدعوات المعارضة للدين كمنهج حياة وتربية وحكم بذريعة ردّ فعل على جماعات التكفير، أو انبهار بالنموذج الغربي البراق، وخطابه الإعلامي الغالب الجالد لعقولنا معشر المغلوبين.
من البدهيات أن أعظم رادع لجرائم القتل والخطف والاغتصاب والسرقة، زرع قيمة الحلال والحرام ومراقبة الله بنفوس الناس، حينها حتى لو ضعفت رقابة القانون عنهم أو زالت بالكلية، ستبقى الرقابة الذاتية المرتبطة بالدين تؤدي مهمتها على خير ما يمكن، ولذلك نرى في الدول الغربية عند ضعف سلطة القانون كيف يتحول الإنسان الغربي المتحضر المتمدن الراقي لمجرم يسرق وينهب ويخرب.
2) الوضع الاقتصادي السيء:
الفقر والحرمان دافع رئيس للجريمة، خاصة بغياب التكافل المجتمعي، وإذا اجتمعت البطالة مع الفقر، فذلك الجحيم قد فتح أبوابه.
توفير الأمان الاقتصادي للناس مع فرص العمل، والبيئة المجتمعية المتكافلة، يسهم جدًا في تخفيض نسبة الجرائم؛ لأن الفقر والبطالة مسببات للعنف ولتعاطي المخدرات والخمور والدعارة، وكل رذيلة منهم كفيلة بإغراق المجتمع ببحر الجريمة، بل إن الفقر والبطالة من أسباب التخابر والتعامل مع جهات معادية، فكم من تفجير كان وراءه عاطل ضعيف نفس، أو فقير حاقد على المجتمع المتنكر له، جاءه شيطان ما بدراهم معدودة واشترى ضميره، وصيّره سِكينًا في قلب المجتمع.
3) لعنة المؤسسات الكرتونية:
مازلت أرى مجمل المؤسسات العامة الموجودة بالمحرر عبارة عن هياكل ورقية هشة وإن وجد فيها شخصيات جيدة، يحاول أصحابها إقناعنا أنها فعالة وقوية، رغم أن الواقع والمنطق يقولان غير ذلك، فكون أن هذه المؤسسات ليست ذات مرجعية سياسية واضحة، وليست إفرازًا طبيعيًا للثورة، ولا تملك شرعية انتخابية شعبية، ويكثر فيها خاصة بالمناصب القيادية غير الأكفاء الذين لا يتمتعون بأي قبول مجتمعي، حينها سيكون الفشل والتخبط نتيجة متوقعة لعملها، ومع الوقت ستزداد عطالتها ومشاكلها، ولن يكون الحل إلا بإعادة هدمها وبناء غيرها على أسس سليمة.
لنأخذ الجيش الوطني مثالاً، فكلمة جيش تدل على التنظيم والعلم العسكري، ووجود قيم نبيلة كالإخلاص والتضحية، ووطني تعني أن مرجعيته للبلد وأهلها، لكن ما مدى انطباق هذا الكلام على مؤسسة الجيش الوطني؟!
أكرر أني لا أشمل كل من فيها، لكني أحكم على المؤسسة كمحصلة عامة، وصراحة لن نجد فيها أيًا ممَّا سبق، فأغلب متصدريها أناس أميون أو أنصاف متعلمين، ولم تصقلهم أو تفرزهم الثورة ومعاركها، بل صنعتهم برامج دعم مخابرات الدول، وسجلهم كأشخاص أو كفصائل يرأسونها حافل بالانتهاكات والتجاوزات المخالفة لقيم الدين والثورة السورية والمجتمع السوري المحافظ، وفوقها يتبارون بالتذلل المهين والتملق المقرف للحليف التركي بشكل يثير الغثيان، ويعطي انطباعًا عن السوريين أنهم قطعان من العبيد الأذلاء الانتهازيين، الذين لا يستطيعون إدارة شؤونهم وحدهم إلا بوجود ولي أمر عليهم يجمعهم بالعصا.
الفرد في مؤسسة الجيش الوطني، أو الشرطة والأمن الداخلي، ما هي العقيدة القتالية والتوجيهية التي يتلقاها؟!
هل مثلاً يتلقى دورات عن الجهاد وأحكامه، وفضل بذل النفس في سبيل الله والقضية، وطرق التعامل مع الناس، وحرمة الدماء والأموال والأعراض؟!
هل يتم مراقبة سلوكه وأفكاره ومدى توافقهما مع قيم الدين والثورة والمجتمع بحيث يُكَافَئ إن أحسن ويُحَاسَب إن أساء؟
هل يتم إجراء دراسة أمنية عنه قبل قبوله؟ بل هل يتم تدريبه على تخصصات عسكرية وأمنية احترافية تحوّله لفرد قادر على أداء مهامه المكلف بها؟
عندما نجيب عن هذه الأسئلة نفهم تمامًا لماذا نسبة كبيرة من جرائم التفجير والخطف والقتل وحوادث إخلال الأمن تحصل على يد منتسبين لمؤسسات عسكرية، أو مدنيين مقربين منها، أو بأحسن الأحوال لماذا يبقى معظمها مقيدا ضد مجهول، مع الأخذ بعين الحسبان أن تجاوزات أفراد المؤسسات على رأسها الجيش الوطني أسهم بشدة بخلق بيئة حاضنة متعاطفة مع الجهات المعادية للثورة ( النظام / داعش / قسد ) وخلق مبرر لإجرامها تسوّقه كدعاية جاذبة للتجنيد والتبرير بين حاضنتها، وتزداد خطورة الأمر مع حقيقة أننا في الثورة لم نُوجِد البديل الإداري الأفضل للمواطن في المناطق التي حررناها من يد أعدائنا.
4) وجود نظام بشار الأسد:
إسقاط النظام السوري برموزه وأركانه هو الضمان الوحيد لارتقاء الشعب السوري، وتحقق قدر عالٍ من الأمان في المجتمع، فالنظام السوري هو محرك الشر والجريمة على كافة المستويات، من نكبات التهجير والعنف ضد الشعب، مرورًا بتجارة المخدرات وترويجها، وانتهاء بثقافة الفساد والسرقة، حتى داعش وقسد ما هما إلا صنيعتا مخابرات النظام، كيف لا وهو صاحب برامج الإفساد الممنهجة اجتماعيًا واقتصاديًا وقيميًا، ورأس كل فساد وشر بالمجتمع السوري، أوليس هو من عمل بدأب وجهد طوال ما يقرب من الستين عام على هدم كل فضيلة، ونشر كل رذيلة فينا؟!
ثقافة الوشاية وكتابة التقارير، والمحسوبية والواسطة، والرشوة، وتأجيج النعرات المجتمعية والدينية، والتضييق على كل مصلح، وتصدير كل مفسد، ممارسات فُرِضت علينا بالحديد والنار، ولفترة طويلة، لن يكون الخلاص منها بيوم وليلة، وحتى بانتصار الثورة القريب بإذن الله، فإننا نحتاج وقتًا لإحلال قيم الخير بدل تلك القيم البعثية الشيطانية.
إن علاج الخلل الأمني لن يتحقق إلا بمعالجة جذر المشكلة، أما معاينة أعراضها والتكلف لها فما هو إلا مسكنات ألم، قد تخدر قليلاً، لكنها تزيد المشكلة سوء في المستقبل، وسيظل الوضع الأمني من سيء لأسوأ، ما لم تتم معالجة المشكلات السابقة، وإيجاد حلول صحيحة لها.