الهيثم نجيب |
وقفت قليلاً وأنا أقرأ شيئًا من سيرة الكاتبة التركية (إيليف شفق) التي أوردتها في روايتها (حليبٌ أسود) ذاكرةً رحلتها الطويلة التي جابت فيها العالم مبتعدةً عن بلدها الأم.
كانت بداية رحلتها، إن لم تخنّي ذاكرتي، من تركيا إلى فرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية، مرورًا بألمانيا وغيرها من البلدان التي أكثرت الترحال بينها ذهابًا وإيابًا.
الذي استوقفني في الأمر؛ عدم ذكرها لغربتها على محمل سيء، أو كفاجعة ألمّت بها كما ذاع صيت الغربة في المحتوى العربي وعلى يد كثيرٍ من الكتّاب والمدوّنين العرب، حتى صار الشّر صفةً ملازمة للغربة لكثرة ما نالت من الهجاء والذم، وكان ذلك في غالبه ممّن اكتوى بإحدى نيرانها، أو جُلِد بسوطٍ من سياطها، فآلمه موضع الجَلد حتى غفل عن غيره من الأحاسيس ونسي شيئًا من إيجابياتها وطرفًا من محاسنها.
بل إن الصورة الذهنية التي تنطبع للوهلة الأولى في مخيلة من يقرأ رسائل المغتربين أو يسمع أخبارهم وأحوالهم تكاد تتجسّد في صورة وحشٍ كاسر، من أولئك الذين يتابعهم الأطفال في برامجهم؛ ينتشل المرءَ من بلده وموطنه ويرمي به في بلادٍ أخرى لا تقل غرابةً عليه من ساكنيها وعاداتهم التي لم يعتد عليها ولم يسمع بها من قبل، ليبقى بذلك أهله وذووه من خلفه يغرقون في الذكريات، ويعتمدون على مكالماته ورسائله في تسكين آلامهم وتخفيف أوجاعهم المتراكمة من أثر الفراق.
دعونا في البداية نقرّ بأن هذه مشكلة تعاني منها مجتمعاتنا بشكلٍ عام؛ وهي النظرة السوداويّة تجاه كل ما هو جديد، قبل إدراكه أو الإحاطة بجوانبه، وكما يقال: النفس عدوة ما تجهل. ولا شك بأن الغربة (بمعناها السائد)؛ أي الابتعاد عن وطن المرء وذكرياته وخلّانه، تسبب لكثير منّا حساسيّة تدفعنا للنفور منها وتكوين تلك النظرة السوداوية. إلا أنه لابد أن يكون للغربة وجهٌ آخر، أقل قبحًا من ذاك الذي طبع في أذهاننا. ولمّا احتوت الغربة على محاسن مادية وفكرية واجتماعية جمّة في مقابل مساوئها التي تكاد تنحصر في أعمال القلوب والأحاسيس، ومن أبرز تلك المحاسن إعادة صياغة الفرد وتشكيله، وتسديد بعض الآراء والأفكار وإكمال ما كان ناقصًا منها قبل ذلك، رأيت أن آخذ جولة في أروقة التاريخ وبين صفحات الكتب الصفراء لأطالع ما قاله من سَلَف حول الغربة وإبراز ذلك الوجه المشرق لها.
يقول الكاتب الروسي (فيودور دويستفسكي): “إن الزمن الذي يخاف فيه أهلنا علينا من الغربة انتهى؛ وجاء زمن نحن في غربتنا نخاف عليهم من الوطن” وقال في مواضع أخرى ما معناه: “إن البشر أكثر ما يخافون هو أن يتقدّموا خطوة إلى الأمام”.
نعم؛ فالغربة برغم آلامها ماتزال من تلك المدارس التي يصعب أن تتعلم في سواها ما ستتعلمه فيها؛ حيث ستخرجك من صندوقك الخاص إلى فضاءٍ واسع جدًا ربما لم تكن تعلم بوجوده.
وفي نظرة سريعة على سيرة ومسيرة سلفنا، نجد أن كثيرًا من الناجحين والمؤثرين كُتب لهم النجاح بعد هجرتهم ومفارقتهم الأوطان، وبالرغم من أنّ هذا لا يُعدُّ دليلاً على تأييد فكرة الهجرة دون تقييد، إلا أنه يوضّح لنا صفة لازمة لعددٍ من أولئك العظماء.
فما هجرة الجيل الأول من الصحابة، رضي الله عنهم، إلى ملكٍ لا يُظلم عنده أحد عنا بغريبة، ومعايشتهم هناك لثقافة غير التي ألفوها وارتضعوها في أرض الآباء والأجداد، فكان التحوّل المعروف في حياتهم وأثره البالغ على الدعوة الإسلامية بشكلٍ عام.
كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من (أحب البقاع إلى قلبه) بعد أن آذاه قومه وعشيرته إلى خير مدائن الإسلام وعاصمة دولته فيما بعد، فنصره أهلها وأيّدوه ومنعوه من عدوّه وعدوّهم حتى استقرّت الدعوة في الجزيرة العربية حينًا من الدّهر.
أما عن وصول المسلمين إلى جهات الأرض الأربع وحجم انتشارهم، فقد كتب فقيه الأدباء وأديب الفقهاء (علي الطنطاوي) مقالة بعنوان: “نحن المسلمين” افتتح بها كتابه الذي لا يملّ القارئ من مطالعته وتقليب النظر فيه (قصص من التاريخ) موثقًا الأراضي التي وطئها المسلمون عبر التاريخ قائلاً في مطلعها:
” سلوا عنا ديار الشام ورياضها، والعراق وسوادها، والأندلس وأرباضها، سلوا مصر وواديها، سلوا الجزيرة وفيافيها، سلوا الدنيا ومن فيها، سلوا بطاح إفريقية، وربوع العجم، وسفوح القفقاس، سلوا خفافي الكنج، وضفاف اللوار، ووادي الدانوب، سلوا عنا كل أرض في الأرض، وكلّ حي تحت السماء. إن عندهم جميعًا خبرًا من بطولاتنا وتضحياتنا ومآثرنا ومفاخرنا وعلومنا وفنوننا”.
وأذكر أني كنت أتغنى أثناء المرحلة الابتدائية بأبيات شعرية سمعتها من مدرّس مادة التربية الإسلامية، عرفت فيما بعد عمق معانيها ودقة المغزى الذي أراد كاتبها (الإمام الشافعي) أن يوصله عبرها حيث يقول رحمه الله:
ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ** مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ** وَانصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ** إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ ما اِفتَرَسَت ** وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ** لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ** وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ ** وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ
فانظر كيف ربط المحاسن قاطبة بالهجرة والغربة ولم يذكرها على النحو السيء المعروف في زماننا!
وهذا فصيح نيسابور (عبد الملك الثعالبي) يفتتح فصلاً في كتابه “اللطائف والظرائف” ليحدّثنا فيه عن الغربة ويبدع في إعلان رأيه فيها قائلاً:
إذا النار ضاق بها زندها ** ففسحتها في فراق الزناد
إذا صارمٌ قرّ في غمده ** حوى غيرُه الفضل يوم الجلاد
وفي الاضطراب وفي الاغتراب ** منال المنى وبلوغ المراد
فيما يرى (بيدبا الهندي) مؤلف كتاب (كليلة ودمنة) المنسوب خطأً (لابن المقفع) والذي ضمّنه حِكَمًا وأخبارًا جمةً يرويها على لسان حيوانات الغابة، إذ يرى الغربةَ سببًا من أسباب حفظ العزة والكرامة، فيقول: “قال الملك للرابع من ندمائه: فما رأيك في هذا الصّلح؟ قال لا أراه رأيًا بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدّة المعيشة خير من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه.”
ختامًا: فإن الغربة حالة طبيعية رافقت البشريّة منذ القدم، وليس الخلاف بين مؤيديها ومعارضيها وليد اليوم أو الأمس، بل هو خلافٌ قديم يظهر للناظر والمتتبع لآثار العرب والعجم على حد سواء. فقد كتب الكثيرون عن الغربة مدحًا وذمًا، تأييدًا ومعارضةً ما لا يمكن حصره في مجلداتٍ فضلاً عن تدوينه في بضع فقرات وبعض صفحات. كما أن مواقفنا من الغربة وتجاربنا المختلفة لها قد تدخلنا في حالة اختلاف وجهات النظر، وفي هذا المقام أختم بما كتبه مدوّن عربي أفلت اسمه من ذاكرتي: “النجاح قرار، والفشل اختيار، ولا يمكن إدراك الراحة بالراحة، ولكن تدرك الراحة بالتعب” ولكلّ منا اختياره وحكمه على الغربة … ودامت لكم المسرّات.