زيوان البلد
ضَمِنَ الله لخلقه نواميس الحياة لكيلا يركنوا إليها، بل ليتفكروا بها ويعملوا وفقها، ويدلِّل على صحة هذا ظهور “الطفرات” وحالات “الشذوذ” في الطبيعة والحياة، التي تخرج متجاوزة القانون السائد والمعروف إلى آخر أشد تعقيداً من سابقه، لذلك علينا ترقية التفكير مواكبةً لتعقيدات الحياة بما نملك من وسائل مهما كانت بسيطة.
سأبدأ بسؤال يبدو مكرراً: ما الذي نعرفه حقيقة عن “تنظيم الدولة الإسلامية” الذي أصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس؟!
أدَّعي أنَّنا لا نعرف عن هذا “التنظيم” إلا ما يراد لنا معرفته، سوى أنباء قليلة تتسم بالغموض وأحياناً التناقض، لذا سنعتمد قراءة جزئيات بدهية لا يمكنها أن تكون كاذبة، في محاولة لتشكيل صورة مرئية واضحة نسبياً حول الموضوع.
حين قامت القوات الأمريكية عام 2003، في عهد بوش الابن، باستباحة العراق، واتخذت بعض تلك القوات منذ اللحظات الأولى الإجراءات الضرورية للحفاظ على وزارة النفط وما يتعلق بها، حيث كان الرئيس الأمريكي حينذاك من مُلاَّك إحدى شركات النفط العالمية الكبرى.
تصادف مع نشوء ما سُمي “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق”، حدوث تغير للتكتيك الأمريكي في الإشراف على المنطقة، حين قرر أوباما في عهدته الرئاسية الأولى سحب قواته العسكرية من العراق، ويمكن اعتبار ذلك إيذانا بانطلاق “المرحلة الأولى” لتنظيم الدولة.
نستتبع قراءة نمو “التنظيم” ضمن الساحة السورية، والتي مثلت المرحلة الثانية له، حين ظهرت مجموعة مقنَّعين شديدي التنظيم والانضباط، شعارها رمزين معروفين للقاصي والداني هما “شهادة التوحيد” و”خاتم النبوة” الإسلاميين، بعد عشرات التأكيدات الأمريكية بعدم نيتها بتدخل عسكري في سوريا، إذ أوكلت مهمة الوجود العسكري إلى الشركات الأمنية؛ للحفاظ على حقوق الشركات النفطية المستثمرة للحقول السورية أولاً عبر تمديد “التنظيم” من العراق إلى سورية بتسميته الجديدة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والذي سيتسع دوره من استثمار عسكري حمائي إلى حامٍ لمصالح المَجمع الصناعي الأمريكي، ليشمل جعله محركاً رئيساً للسياسة الدولية لاحقاً.
نلاحظ أنَّ “التنظيم” دخل سورية في ذروة تمدد أقصى لـ “الجيش الحر” وأدنى انحسار لجيش “النظام” على مستوى جغرافيا الوطن، فعبر العراق ودخل سوريا قاضماً مناطقاً فقدها “النظام”، كما لم يُحسن “الجيش الحر” ضبطها، وتوجه ليستولي على المرافق الحيوية (قمح، مياه، كهرباء …) خلال تنفيذ مهمته الأساسية كبديل لمتابعة استثمارات شركات النفط التي غادرت الحقول السورية.
إنَّ “التنظيم” أتى كحاجة أمريكية سياسية/عسكرية، بعد الانسحاب الرسمي للولايات المتحدة عسكرياً من المنطقة، كبنية مفتوحة قابلة للتشكيل وفق رغبة المستثمر لهذا المنتج، كما يُفعل الآن في أهم برمجيات المعلوماتية التي يقوم المستثمر ذاته ببنائها وفق حاجاته وإمكاناته. لذلك لا نجد مبرراً منطقياً لقيام “التنظيم” بـ “إعادة انتشاره” على الأراضي السورية بمنتهى السلاسة واليسر ودون إزعاج من القوى الكبرى المنخرطة بالشأن السوري إلا التنسيق معها.
ومن أهم ما شُغل عليه لتجذير هذا الكيان هو المستوى النفسي والسيكولوجي للجماهير عبر إظهار “التنظيم” كأشباح مقنَّعة تضخيماً للرهاب من المجهول، ثم التهويل بالمقدس من خلال رفع شعاره كإشارة بصرية في راياته السود بتماهٍ تاريخي تستحضر أرفع وأعظم شخصية في الإسلام بشكل إحلالي على شخصية “الخليفة” المفترض. كما نتج عن تجنيده لغرباء وأجانب عن البلد قسوة بالغة ضد من لم يستطع إخضاعه عبر تهويل متنامٍ بالمجهول وبالتكفير. ولذلك رأينا أنَّ أطراف “الجيش الحر” حارت واضطربت كثيراً قبل التعاطي معه ولفترة طويلة.
هدف إنشائه كان كبح أي قوة عسكرية من الخروج عن السيناريو الأمريكي/الدولي في المنطقة. إذ اكتفت إدارة أوباما بمراقبة نشاطات هذا “المنتج” للاستفادة منه سياسياً في لحظة مفيدة، بحيث أصبح محدد حركة إدارته هو فعل عسكري يقوم به “التنظيم” يمهد لهندسة المشهد العام الذي سيرسِّم نطاق الحركة العسكرية والسياسية وحتى الاقتصادية في المنطقة لخلق مشيئة دولية تسوسها إدارته.
ثم انطلقت المرحلة الثالثة لـ “التنظيم” من الأرض السورية لتفتتح فروعاً جديدة (حسب الطلب) تارة في ليبيا وأخرى في سيناء وثالثة في تونس، فـ”التنظيم” وُجد بقصد الانتشار كما يعلن هو “باق ويتمدد”. وبمنتهى السهولة يمكن لأي جماعة في بقعة معينة الاستثمار بهذا “التنظيم” عبر بَيعة (عن بعد) لـ “الخليفة” المزعوم، وليس مهماً إن كانت تلك الجماعة مرتبطة بجهة استخباراتية أو بمستثمر أجنبي أو بحزب سياسي أو مجموعة مجرمين، المهم أنَّ “البَيعة” هي بوابة إدخال “التنظيم” كفاعل في مضمار السياسة الدولية لإضواء أي دولة ضمن الجوقة الدولية رغباً أو كرهاً.
سيقول قائل: “كم أنتم مولعون بنظرية المؤامرة؟!”. لذلك أقترح تسمية أخرى قد ترضيه هي “العقل التكنولوجي أحدث منتجات السياسة الدولية”. وأدَّعي أنَّ ما يحدث سببه أنَّ نشاطاتنا لم تغادر ردود أفعال الآخرين، وأننا لم نستطع إلى الآن تحويل تلك النشاطات إلى أفعال بعد، ولفقرنا الشديد بالبنية المادية، نحاول تأسيس أفعال فكرية على الأقل، حيث مازلنا نمتلك الفكر والحمد لله.