تعيش مدينة حلب في شمال سوريا مغبة صراع دولي, ولكن من نوع آخر, فعلى عكس ما تتبجح به أميركا وحلفائها عن شرعية مجلس الأمن ودوره في حل القضايا الدولية نراهم وجدوا مكانا آخرا لمعالجة تلك القضايا وحلها, ويبدو بأن ضفاف أنهار جنيف وصوت خرير مائها الدفاق ونسيمها العليل وكؤوس الفودكا سيمنحهم راحة نفسية وقدرة أكبر على التركيز لحل مشاكل العالم وقضاياه.
لذلك قرر ملائكة الخير وآباء الإنسانية ونبع الحنان الوزير الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف الاجتماع هناك لإصدار قرارات مصيرية بمحاولة منهم لإنهاء الصراع في سوريا وحل مشكلة المحاصرين في حلب والمجازر اليومية التي تشارك بها روسيا بطيرانها وأميركا التي تدعم النظام لوجستيا وسياسيا ودوليا وعسكريا إذا اقتضى الأمر , فكيف يريدون أن يحلوا المشكلة التي هم أساسها لا أحد يعرف !
ويحمل هذا الاتفاق الكثير من النقاط التي أغضبت الشارع السوري وخاصة في حلب المحاصرة, أولها أن الاتفاق الذي سمي باسم “اتفاق كيري و لافروف” اتسم بالغموض والإبهام إذ لم تعلن كل تفاصيله ولم يعرض منه إلا عدة بنود تتحدث عن فرض هدنة وإدخال المساعدات إلى حلب والتي لم يعرف ماهيتها حتى الآن, والإعلان عن خطة لضرب مقرات فصيل “جبهة فتح الشام” وعدة نقاط أخرى, أما باقي تفاصيل الاجتماع الذي استمر لثلاثة عشر ساعة فبقيت سرية ولم يطلع احد عليها.
ايضاً لم يقم الاتفاق للسوريين وزناً ولم يشاركوا هم في وضعه, وقد فرض عليهم فرضاً على عكس ما جاء في بيان الفصائل التي قامت برفضه, وهذا ما اعتاد الغرب على فعله من خلال الاتفاقيات الكثيرة التي حصلت عبر التاريخ, أهمها اتفاقية سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو ووعد بلفور والأمثلة التي تتحدث عن تعدي الغرب على رأي الشعوب وتحكمه بمصيره كثيرة, ولا يعدو اتفاق كيري ولافروف سوى انه حلقة من الحلقات الغربية المتكررة.
كذلك فإن الاتفاق بالنسبة لوقف إطلاق النار ليس بجديد وقد ذاق الثوار مرارته في الهدن السابقة التي كان يخرقها النظام دونما أي استنكار دولي, وقد مكنه ذلك من السيطرة على مناطق كثيرة أهمها تلك التي سيطر عليها في الهدنة التي كان من المفترض أنها قامت في شباط الماضي من هذا العام, والتي خولته من السيطرة على مناطق عديدة من الريف الشمالي في حلب ومحاصرة المدينة, ولا ضمان بالنسبة للنظام بأن يعيد تلك الكرة خاصة بأنه لا يوجد ضمانات حقيقة على التزامه بها, خاصة بأنه قام بالكثير من الاختراقات منذ بداية الهدنة.
ويريد أيضاً كيري ولافروف من اتفاقهم هذا تكرار تجربة أفغانستان بضرب المجاهدين ببعضهم البعض, وقد توضح ذلك جلياً بتصنيفهم “جبهة فتح الشام” على قائمة الإرهاب التي يغيب عنها المليشيات الشيعية الإيرانية وحزب الله والفصائل العراقية, ومطالبة الفصائل الأخرى بالابتعاد عن مقرات فتح الشام للتمهيد لضربها من قبل مقاتلات التحالف والمشاركة بمساعدة الطيران لضرب تلك المقرات, وهذا ما كان واضحاً بالنسبة للفصائل التي وقفت موقفاً مشرفاً مع شريكتهم في الثورة السورية ورفضت قتالها أو مساعدة أحد عليها.
الأهم من هذا كله فإن هذا الاتفاق سيقوم بتجميد الجبهات القتالية لمنع تكرار المعركة التي قام بها الثوار, والتي مكنتهم من فك الحصار عن حلب في المرة الأولى وسيصب ذلك في مصلحة النظام اولاً واخيراً.
إذاً هو اتفاق لفرض واقع الحصار الذي شاركت به كل من اميركا وروسيا, ومحاولة لفرض واقع الحل السياسي الذي تلوح به أميركا منذ بداية الثورة, والذي سيضمن لها بقاء النظام الحالي بأبرز رؤوسه ومؤسساته.