طلال شوّار
نفذ ثمَّ اعترض، مقولة تمثّلت في حياتنا فترة طويلة، وقد لا يتاح لك الوقت كي تعترض، فكل ما عليك فعله فقط هو أن تنفذ، ولو اتيح لي اختصار الدكتاتورية بجملة واحدة لاختصرتها بهذه الجملة ” نفذ ثم اعترض “.
لعلَّ معظم الشعب السوري يعرف هذه الجملة لأنَّها القانون العسكري المعروف لدى الجيش السوري، ولاحقا لعامة الشعب السوري.
إنَّ أسوأ ما في هذه القاعدة أنَّها تلغي دور العقل وتنفي حق الاختيار والاعتراض، وهي من أبسط حقوق الإنسان، فما الذي تعنيه هذه الجملة؟
من الناحية العملية هي قانون عسكري يلزم العسكري بتنفيذ أوامر قائده المباشر وأحيانا غير المباشر، طالما هو أعلى منه رتبة، وذلك دون نقاش مهما كانت هذه المهمة مستحيلة، وإن كان هذا القانون جائر وظالم لكنه يبقى مقبولاً نوعاً ما فيما لو بقي محصوراً ضمن المجال العسكري.
لكن المصيبة عندما ينتقل هذا الفكر والعقلية إلى مجتمعنا بكل تفاصيله ومكوناته قبل الثورة. والكارثة الأكبر حين تسربت إلى ثورتنا ومؤسساتها.
قد يستغرب البعض من هذا الربط، لكن لو دققنا مليًّا في حال الثورة ومؤسساتها المدنية منها والعسكرية، لوجدنا (نفذ ثم اعترض) مبدأ يسير عليه الأكثرية حتى نتجنب التعميم.
فكم من فصيل (ثوري) أوقف جبهة استراتيجية بمكالمة هاتفية، وكم من جبهة فتحت بتوقيت خاطئ فقط لتنفيذ الأوامر؛ والأوامر هنا للداعمين طبعا!!
وعلى الجانب الآخر؛ أي ما يخص مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات التي تتبنى اسم الثورة، فكم أهدرت من الأموال! وكم نُفذ من مشاريع وهمية، وأخرى لا حاجة لها! وأهدرت أموالها لا لشيء إلا لإرضاء غرور مدير عبثي مستهتر بمصالح الناس المنكوبة، والتي هي أحوج ما تكون في هذه الظروف القاهرة لأعلى درجات الاهتمام والشعور بالمسؤولية.
كلُّ هذا يصبُّ في منحى واحد، وهو تنفيذ الأوامر التي يتبناها الداعم، ولم يكن كلُّ ذلك محض صدفة أو عبثا، أبدا إنَّما مخطط له، ومدروس بعناية ممن نصّبوا أنفسهم أصدقاء لنا، ولثورتنا للأسف، فبعد الأشهر الأولى لثورتنا والتي كانت غاية في المثالية والرقي، وبعد يأس النظام والقوى الداعمة له بما فيها الدول التي سمت نفسها لاحقا ( أصدقاء الشعب السوري ) بعد أن يئس كل هؤلاء من ثني شعبنا العظيم عما خرج لأجله، وأيقنوا أنَّه مصمم على بلوغ هدفه في نيل حريته وإسقاط النظام المجرم، ما كان أمامهم إلا الالتفاف على الثورة و احتوائها عن طريق زجها في خضم العسكرة و السلاح، ومن ثمَّ السيطرة على ذلك بالمال والدعم المشروط.
ولتحقيق ذلك كان لا بدَّ مع الوقت من إبعاد كل قائد عسكري أو ناشط مدني مؤمن بثورته وبقضية شعبه عن المشهد، إمَّا بحرمانه من الدعم أو بتصفيته إن لزم الأمر، وتوجيه هذا الدعم والأموال لأشخاص مستعدون لتقديم التنازلات والعمل تحت قاعدتنا التي ذكرناها سابقا، ولكن مع تعديل طفيف (نفذ وإياك أن تعترض).
كل ذلك يفسر تأخر سقوط النظام، وقد يستمر إلى فترة قد تطول وتطول فيما لو بقي هؤلاء يتصدرون العمل الثوري، وهذا ما يفسر أيضا مواقف كثير من المعارضين الذين تجدهم بعد سنوات من التضحيات والدم يحملون لواء الحل السلمي المتماهي مع ما يريده النظام، وقد نجد في ذلك أيضا تفسيرا لخروج مناطق كثيرة من يد الثوار أو توقف جبهات ساخنة كفيلة بكسر ظهر النظام فيما لو تحركت.
وبتنا نجد أنَّ أبناء الثورة وروادها الأوائل غيبهم الموت أو الاعتقال أو في أحسن الأحوال التهميش.
لكنَّها مستمرة بجهود من بقي من الشرفاء الصابرين المرابطين الذين باتوا أسطورة حية يبثون الحياة في ثنايا ثورتنا، ويذهلون العالم المتخاذل بشجاعتهم وصمودهم فلهم منَّا كلّ التحية والثناء.