انطلقت أميرة مع ابنتها الصغيرة في ساعات الفجر الأولى بحافلة تقلها من مدينة إدلب المحررة إلى مدينة حماة لتستلم راتبها، فهي تعمل معلمة بإحدى المدارس في المدينة، وودعت واستودعت زوجها وابنتها لينا عند الله، هكذا يفعل الجميع عندما يسافرون، فالموت لم يترك منزلاً إلا وطاله بسبب القصف المستمر على المدينة منذ تحريرها، ولكن لم يخطر ببالها أن يكون هذا الوداع هو الأخير.
فمنذ أسابيع إلى الآن لا تزال طائرات نظام الأسد وروسيا تحصد حياة سكان مدينة إدلب وسط دمار كبير في البنية التحتية.
وبعد أذان ظهر يوم الأربعاء في17/8/2016 خرج زكريا والد لينا من منزله لأداء صلاة الظهر في جامع الفرقان لأنه يوم بدا هادئا على قبله من الأيام الماضية التي كان الطيران لا يغادر فيها سماء المدينة لدرجة تلغى فيها الصلاة في الجوامع لأنها هدفا للطيران، طلب زكريا من ابنته البالغة من العمر 17 ربيعا بأن تبدأ بتسخين وجبة الغداء التي أعدتها له زوجته قبل أن تسافر حرصاً منها على عدم إتعاب فتاتها في طهي الطعام لكيلا تضيِّع وقتها، فهي طالبة بكلوريا تسعى جاهدة لنيل شهادتها والانتقال إلى المرحلة الجامعية.
وما إن خرج بدقائق قليلة حتى بدأ هدير الطائرات فوق سماء المدينة يسيطر على مسامع السكان، وأعقبه صوت الصاروخ الذي سقط بالقرب من منزل زكريا، وأسقط معه دموع المئات قهراً على فقدهم، إنها غارة جوية على الحي الكائن في منطقة تعتبر من السوق ومزدحمة دائماً، بدأ صراخ الأطفال والنساء يختلط بأصوات سيارات الإسعاف والإنذار الذي ينبئ بغارة أخرى، بعد أن خلفت الغارة الأولى ما يقارب 30 شهيد ومئتي جريح.
بدأت لينا تشعر بالقلق على والدها فقد تأخر ولم يعد بعد أن مضى ساعة على الغارة، الكل عاد من الصلاة ووالدها لم يعد، من ستسأل؟! وماذا ستفعل؟! وأين ستذهب؟! أسئلة كثيرة دارت في مخيلتها فما من أقارب لها في المدينة، حيث جاؤوا نازحين من جسر الشغور بعد أن تدمر منزلهم هناك بفعل آلة الأسد التدميرية، اتصلت بزميلتها على الهاتف الأرضي علها تجد جوابا عندها وكان صوتها يرتجف وحرقة قلبها ولوعتها واضحة من تقطع كلماتها، وسط حالتها المحزنة خطر ببالها أن ترسل أحمد ابن جيرانها ليسأل عنه في المشافي الميدانية داخل المدينة.
بعد ذلك طلبت لارا الإذن من والدتها للذهاب لبيت لينا ومواساتها، لأنَّ وضعها حرج ولترافقتها إلى المشفى الذي قال ابن الجيران إنه وجد والدها فيه بعد أن بحث عنه في جميع المشافي الميدانية، ولكنه أخبرها بأنه مصاب فخبر موته أشلاء لم يكن أمرا سهلا خاصة وأنها وحيدة.
بخطى متثاقلة وقدمين لا تكادا توصلاها لمتابعة المسير، ويدين مرهقتين بدأت لينا تكشف الجثث المجهولة بعد أن بحثت عنه بين المصابين ولم تجده، كان منظر الأشلاء في الأكياس يخيفها إلا أنها تابعت البحث وأخيراً وجدت والدها وصرخت بصوت مبحوح ودموع تخنق حنجرتها……هذا أبي! كانت زميلتها لارا تقف بجانبها تبكي بصمت حينما رأت زميلتها تنهار أمام جثمان والدها فهي الأخرى كانت يتيمة الأب، ضمتها لصدرها وأصبحتا تبكيان بحرقة.
بدأت لينا تلملم دموعها فقد كان والدها قد أوصاها ألا يبكي أحدا من أفراد أسرته إذا ما توفي، تم دفن والدها وهي من بعيد تراقبه وتقول لزميلتها: “الآن شعرت بمرارة اليتم” ووالدتها في تلك اللحظة لا تعلم بما حل بزوجها وابنتها بعد أن سافرت في صباح ذلك اليوم.
لم يكن والد لينا هو الوحيد الذي توفي في ذلك اليوم الدامي، فهو مع غيره من الآباء تركوا مهجة قلوبهم أطفالهم أيتاما يواجهون صعوبة الحياة بكل ما أوتوا من قوة في حرب لا بوادر لنهايتها، أبناء انتظروا آبائهم ولم يعودوا، فلا يكاد يمرُّ يوم بالمناطق الساخنة دون انتشار رائحة موت أو دمار.
17/8/2016 تاريخ ليوم مرعب كسابقه من أيام كثيرة، حمل في طياته حزنا رسخ في أذهان من بقي حيا في مدينة إدلب من صور لأشلاء وجثث لا يمكن للزمن أن يمسحها من ذاكرتهم حتى لو عمَّ السلام المنتظر والمفقود الأمل به، ولاسيما أنَّ جميع الأسلحة الدولية حتى المحرمة يتم تجريبها على الشعب السوري الأعزل الذي يرافقه فقط الصبر والإيمان بالله، فهو وحده قادر على حسم الحرب.
ولكن رغم اﻵلام والمصاعب التي يمرُّ بها جميع السوريين قررت لينا وزميلتها لارا متابعة دروسهما لتقديم الثانوية العامة وتحقيق حلم والدهما لتساهما في بناء الوطن الجديد بجهودهما مع زميلاتهن ممن فقدن آبائهم فباﻹرادة تصنع المعجزات.
سلوى عبد الرحمن