رنا الحلبي
(أم عبدو) بين واقع مؤلم وحلم لم يتحقق، فقد أصبحت بيوت السوريين لا تخلو من قصة قصف واستشهاد واعتقال وتهجير تدمي القلوب حسرة وألماً وحزناً، وكان قدر حلب أن تتحمل مزيداً من القهر والحرمان واللوعة في كل صباح ومساء.
(أم عبدو) المرأة الأربعينية العمر فقدت زوجها منذ ثلاث سنوات مضت ولا تعلم أهو حي يرزق أم استشهد أم تم اعتقاله من قبل العصابات المجرمة، فكان قدرها أن ترعى وتعيل أطفالها الثلاثة بمفردها لتعمل موظفة كمسؤولة عن التنظيف في المدارس لتأمن حاجات أطفالها، وكانت مسؤوليتها أكبر مما كانت تتصور، فعليها العناية بهم وتأمين مستلزمات المنزل خارجه وداخله… وذات صباح لم تطلع شمسه في تاريخ5/7/2016 تركت تلك الأم أطفالها نائمين في غرفتهم كالعصافير البريئة الراقدة بسلام (ريم، عبد القادر، محمد عزيز) ثلاثة براعم نعمة الله التي تملكها، تركتهم وذهبت لتجلب لهم الخبز لإعداد الفطور، وهي في طريقها أحست بخوف شديد ملأ قلبها فزعاً على الملائكة النائمين، فقد كان ذلك الصباح المشؤوم مليئاً بأصوات القذائف والصواريخ والبراميل التي تنهال على الحي غير مفرقة بين أحياء سكنية ومناطق عسكرية ..لا بل تترصد المنازل والأحياء الآمنة. أسرعت (أم عبدو) مهرولة تحمل أرغفة الخبز الساخن الذي يبعث رائحة السلام والأمان ليكون قوت يوم لصغارها. دخلت تلك الأم حيَّها وكان الحطام وأحجار المبنى تتناثر في أرجاء الحي وقد غطت جثث عصافيرها المغردة الذين يملؤون دنيتها بصخبهم وضحكاتهم، كان مشهداً صاعقاً مدمراً لها، فقد ناضلت وعانت لأجلهم في سبيل أن ترى عصافيرها قد كبروا أمامها كحلم سائر الأمهات، تسعى لسعادتهم وهنائهم. كان صوت سيارات الإسعاف ورائحة البارود والموت والدم تملأ المكان وتسيطر على الموقف… صرخت تلك الأم المكلومة، فقدت أعصابها، انهار حلمها… أين ريم؟ أين حمودة؟ أين أخاكم عبد القادر؟ أين عصافيري؟ أين منزلي الصغير؟ أين حلمي؟ كلمات بدأت تهذي بها صاحبة الحلم الضائع… أبعدوا الركام عن منزلي، أريد رؤية أبنائي، أحتاج لاحتضانهم، أتوق لعناقهم… كلمات خرجت من صميم قلب ملتاع محترق بصدمة الفراق.
خرجت جثتا المَلاكان ريم البالغة من العمر سبع سنوات ومحمد عزيز صاحب الخمس سنوات هامدتان لا حراك لهما، بل كانتا قطع لحم أحمر غضة هشة كغصن شجرة ندي طري يبعث شذى الطفولة الطاهرة، وخرج ولدها عبد القادر الذي يبلغ من العمر ثماني سنوات وقد أصيب إصابة بالغة في قدميه، لقد ارتعش جسد تلك الأم وفقدت جميع أحلامها البسيطة كاصطحاب أبنائها إلى المدرسة ورؤيتهم وهم يجلسون على مقاعدهم الدراسية ويلعبون مع أبناء الحي ..كل ذلك ضاع في برهة من الزمن، وتلاشى ذلك الحلم مع الغبار والركام المتطاير أمامها ..
لم تكن أم عبدو الأم الأولى أو الوحيدة التي فقدت عائلتها، إنَّما هي نموذج لعشرات بل لمئات النساء اللواتي يقدمن أفلاذ أكبادهن في سبيل تحقيق الحرية والكرامة.
لمَ كلُّ هذا في سوريا؟ ما الذنب الذي اقترفه السوريون لينالوا نصيبهم من الحزن والأسى؟ كيف تجردت الإنسانية من قلوب أولئك المجرمين ليتهموا أطفالاً بعمر الورود المتفتحة بالإرهاب والعنف؟
تحية احترام وامتنان وعرفان لكل أم شهيد ولكل زوجة شهيد صبرت على ألم الفراق وعانت حرمان أعز ما تملك… قريباً بفضل من الله وبفضل الجنود الأشاوس على الجبهات سنزف خبر التحرير لأرواحهم الطاهرة بأكاليل الغار، لكن هذا التحرير لن يأتي من عبث، بل يحتاج إلى عزيمة وعدم التخاذل من جميع القادات والفصائل، فدماء الأبرياء أمانة في أعناقكم، وقلوب الثكالى لن ينجلي صدؤها بغير هممكم وتوحدكم، أيها الأبطال هبوا وانفروا وجاهدوا وانتصروا لإخوانكم الذين سبقوكم لينتشر دين الإسلام في أرجاء المعمورة.