د. أسماء جابر العبد
الإعلامُ هو قاعدةُ هذا الدين وقوامُه؛ فهو جِسر تَعبر عليه رسالةُ الإسلام إلى النَّاس، والإعلام عنوان للأمَّة، ومقياسٌ لحَضارتها، ومِرآةٌ صادقةٌ لنشاطها ومدى تقدُّمها ورُقيِّها ونهضتها.
ولا أجِدُني بحاجة إلى التأكيد على المكانة التي يتَبوَّؤُها الإعلام في الإسلام، فلنْ أَعدُوَ الحقيقة أو أتجاوز المقصود حين أقول: إنَّ الإسلام هو دينٌ إعلاميٌّ بطبعِه، بل الإعلامُ لُبٌّ مِن لُباب الدعوة إليه، وجزء لا يتَجزَّأ من أسَاسيَّاتها، ووسيلةٌ هامة في الكشف عن جوهرها، وإنَّ المبادئَ تشرُف وترقى بسُموِّ الغايات ونُبلها.
وحين يقلُّ الفقه بالواقع، يضعُف اليقينُ بمركزية الإعلام ودَورِه الأساسيِّ في مشروع إصلاح الأمَّة وإعادة بنائها، وترميم ما بعثره الزمان منها.
والإسلام ما ترك شيئًا إلا وحدَّد له أهدافَه، ووضَع له ضوابطَه، فنجده قد وضع للإعلام أهدافًا عقائديةً، وثقافيةً، وتعليميةً، وتربويةً، وسياسيةً، وتوجيهيةً، وإصلاحيةً، وإرشاديةً، واقتصاديةً؛ تَرمي جميعُها إلى تحسين أوضاع الأمَّة والنُّهوض بها.
فأهداف الإعلام المحوريَّة تتلخَّص في ترسيخ الإيمان في نفوس الناس، وتحقيق السيادة لشرع الله عز وجل، وبناء حياة إسلاميَّة متكاملة.
ولا يمكن إغفال دَوره في تكوين الهُويَّة الإسلامية للأفراد والجماعات، ودعم انتِمائهم لأمَّتهم، وجعلهم عناصر فاعِلةً مِن خلال بنائهم معرفيًّا وروحيًّا، وتذكيرهم بماضي أمَّتهم التَّلِيد، والمساهمة في بناء حاضِرهم المجيد، ومستقبَلِهم المنشود.
وحين ينحرف الإعلام عن مساره الصحيح، ويتخلى عن دَوْره المَنُوط به، ويَعْدِل عن جادَّة الطريق، يَجعل الحقَّ باطلًا والباطلَ حقًّا، ويصيِّر الجرائمَ مكارمَ، يُعادي المُصلحين ويشوِّه دعوتَهم، ويلوِّث سُمْعتَهم، ويشكِّك في سِيرتهم، ويَطمِس هُويَّتَهم، ويَعزِف على أوتار كرامتهم، يصطنع الاتِّهامات لهم، ويَنسِج الأساطير حولَهم.
يحتقِر العلماء، ويزدري الأديان، ويزعزِع القيم والأخلاق، ويَطعُن في الثوابت، ويُمَيِّع العقيدة، ويطمِس الهُويَّة، وبالتالي يصبح ما يعرضه راسخًا لا يقبل المساوَمة عند الأجيال الجديدة القادمة.
والتشهير والتنفير وسيلةٌ إعلاميةٌ قديمةٌ حديثةٌ، فالمتأمِّل في تاريخ فِرعون وشِيعته يُدرك بوضوح هذا المعنى، حيث لَجأ إلى أسلوب التدليس وتعمية الحقائق باتهامه لموسى قائلًا: ﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ ، ثم استخدامه أسلوب الحشر والصخب الإعلامي، قال تعالى: ﴿ فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
ولعلنا إن نظرنا نظرةٌ فاحصةٌ عن كثَب إلى إعلام اليوم، تجده لم يخْطئ هذه الأساليب، فهو أقربُ ما يكونُ إلى أداة تَخدم قوى الشر الاستعمارية، على حين أنَّ دَوره المنوط به هو فضْح مخططاتهم، بدلًا من المساهمة في بَثِّها والمساعدة في ترويجها وتحقيق أهدافها.
إنَّ انكشاف الكذب وزواله حتميَّة قرآنية، وحقيقة واقعيَّة، لا تقبل زيفًا، ولا تحتمل نقاشًا، مهما تعاقبت الأزمان وطالت الآماد، فهو سراب لا يلبث أنْ ينحني منهزمًا أمام جلال الحق، وسُموِّ الحقيقة؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ ألا فلْيُتعِبوا حناجرَهم ما شاؤوا؛ فالحق لا بد قهار ومُنتصِر.
لا بد لإعلامنا الهادف أنْ يَلِج أبواب التجديد، مع محافَظة على المبادئ والثوابت، ماضيًا في تحقيق أهداف الإسلام وغاياته؛ فالإعلام لم يكن يومًا مجرد تنسيقٍ للقاءات، وإنشاء برامج نظريَّة بعيدة عن ملامَسة الواقع، ولكنه عمليةٌ توعويَّة قياديَّة، ومُعايَشة مَيْدانية، ونَفْعِيَّة واقعيَّة، ونقلٌ وتحليلٌ للأحداث بموضوعيَّة، بلا تطرُّف ولا تزلُّف ولا عصبيَّة… نتائج ملموسة، وممارسات محسوسة، لا مجرد تَنظيرات وهمية، وتخديرات شيطانية، وحفلات هُولْيُوديَّة.
وما المعنى من الأخلاقيات إذا لم تُتَرجم إلى واقع عمَلي ملموس، ينسجم مع أهداف الأمَّة الإسلامية وتوجُّهاتها وتطلُّعاتها إننا لا نريد لرسالة الإعلام أنْ تكُون هشَّةً متآكِلة الأطراف، وتصوُّرات غُثائيَّةً لا تستحقُّ النَّشر والتبليغ.
كم غبَرت أزمان ومرَّت علينا سِنون عِجافٌ، افتَقرت فيها الرُّفوف إلى كتابات تعالج مشكلات أمَّتنا وتُسلِّط عليها الأضواء، وتسعى بلا تَوانٍ لإيجاد الحل والدواء.
فالأمَّة لا تُصاب من الخارج وتُحيط بها الفتن والنكَبات إلَّا بعد أنْ تصابَ مِن داخلها؛ فما كان للأعداء أن يُسلَّطوا عليها لولا مساعدة الإعلام.
ألا فلْيتَّقِ اللهَ القائمون على الإعلام، ولْينصَحوا الأمَّة، ويَكشِفوا عن العقول الغُمَّة، وليُعمِلوا رقابتَهم الذاتية، وأخلاقهم المِهنيَّة، ولْيذكُروا قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ والله الموفِّق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
1 تعليق
طالب علم
جزاكم الله خيرا ، مقال جميل نافع ، وأسلوب بديع رائع ، جزى الله الكاتب والناشر خيرا