جاد الحق
لا شكَّ أنَّ الحضارة إنتاج إنساني تؤثر فيه البيئة والظروف، وتختلف من شعبٍ لآخر، ومن دولة لأخرى.
الحضارة قرار يتخذه الشعب، فهي ليست وليدة الصدفة، ولا سلعة تباع وتشترى،
والشعب لا يتخذ قرار الحضارة إلا بازدياد الوعي لديه، فمع زيادة الوعي ترتفع القيم عند مجموع الشعب، فيرفع الشعب من إنتاجه الحضاري المادي ليواكب تقدمه الحضاري القيمي.
من أهم النظريات التي تتحدث عن الوعي والقيم، نظرية العالم الأميركي كلير جريفز، حيث قام بمساعدة 200 باحث ولمدة 25 عام بدراسة القيم عند الشعوب على اعتبارها الدافع الأول للرقي والتحضر.
خلُصَ جريفز في دراسته إلى أنَّ المشكلات هي التي تتحكم بالقيم، على خلاف ماسلو الذي اعتبر أنَّ الحاجات هي التي تتحكم بالقيم.
سمى جريفز نظريته بـ ” الديناميكيات اللولبية ” وقسّم بها الوعي إلى سبع مستويات متدرجة:
1) الوعي البدائي: يكون به المجتمع في أسفل السلم الاجتماعي وأقرب للبهيمية، لأنَّ مشكلاته لا تسمح له بالتفكير إلا باحتياجاته الأساسية، كالمسكن، والملبس، والطعام.
تكون القيمة الأساسية في هذا الوعي هي البقاء، وهذا يفسر سبب التراجع السلوكي والأخلاقي في المجتمعات التي تحلُّ بها كوارث، كالحروب والفيضانات، ويضطر أبناؤها للتشرد والنزوح، فتظهر لديهم الاضطرابات السلوكية، والآفات الاجتماعية، لأنَّ العقل الجمعي لديهم يكون متوجها لتلبية الحاجات الأساسية للبقاء بأي ثمن.
2) الوعي القبلي: الإنسان اجتماعي بطبعه، وتنبع اجتماعيته من إدراكه أنَّه لا يستطيع تأمين حاجاته بنفسه، لذلك هو يحتاج للآخرين.
في هذا المستوى من الوعي يتطلع الإنسان لقيمة أسمى من البقاء وهي الأمان، تدفع قيمة الأمان واحتياج الإنسان لها إلى أن يتكتل الناس في قبائل أو جماعات، كالفصائل والأحزاب والمجتمعات الدينية، فهذا التكتل يولّد إحساس بالطمأنينة.
3) وعي التميز: عند تأسيس مجتمع وتخصص كلِّ فرد أو جماعة بمهمة معينة للقيام بها، تبرز الحاجة لفئة تقود المجتمع وتوجهه، وهنا ترتفع قيمة التميز عند بعض الأشخاص كقوة دافعة لهم للسيطرة على هذا المجتمع وحكمه.
هذه القيمة هي السمة الأساسية للدول الديكتاتورية، فنرى جميع مقدرات وجهود هذه الدولة منصبَّة في غاية واحدة هي مصلحة السلطة الحاكمة، والنخبة المسيطرة.
قيمة التميز تجعل الدول الديكتاتورية في مستوى حضاري أقل من باقي الدول، وبنظرة سريعة على خريطة كوكب الأرض، تجدُ جميع الدول المتخلفة حضاريا رازحة تحت سيطرة حكومات ديكتاتورية، كالدول العربية، حتى الغنية منها تعتبر حضاريا متخلفة؛ لأنَّها مستهلِكة لا منتِجة.
4) الوعي الرمزي: عندما يدخل مجتمعٌ ما حالة من الاضطراب والفوضى، فإنَّ أفضل طريقة للتخلص من هذه الحالة هي خلقُ رمزٍ شعبي يعتبر ملهِمًا وموجِهًا للجماهير، وربطُ عموم المجتمع بهذا الرمز، حيث يصبح مرجعية لهذا المجتمع.
مع الوقت يصبح هذا الرمز قدوةً للتقليد عند عموم المجتمع، وينتجُ عنه قيمًا فكرية وروحية يسعى هذا المجتمع بكلِّ قوته لتحقيقها واقعًا.
هذا المستوى من الوعي ينطبق على إيران ومن دار في فلكها، فإيران مرَّت بمراحل اضطراب وفساد أرهقتها وحطمتها، وحصلت الثورة فيها ضدّ الشاه محمد رضا بهلوي، وتمَّ وضع الخميني كرمز للمجتمع الإيراني، سرعان ما التف حوله الناس، وقام بوضع مدرسةٍ فكرية وروحية لهم، كرّس الشعب الإيراني كلَّ قوته لتحقيقها واقعًا.
هذا المستوى من الوعي جعل إيران أقوى من الدول العربية، خاصة الخليجية منها، التي لاتزال عند مستوى وعي التميز، وهنا تبرز حاجة السُّنة لخلق رموز شعبوية تجمع شتاتهم، وتوجه طاقاتهم.
5) الوعي المصلحي: يتمُّ فيه تغليب المصلحة المادية للشعب أو الدولة على أيِّ قيمة أخرى، وتكون المصلحة هي الدافع الأول لسياسات الدولة ولحركة المجتمع.
هذا المستوى من الوعي نجده في الدول الرأسمالية الغربية، وقد عبَّر عنه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل بقوله: ” ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون، لكن لديها مصالح دائمة “.
6) الوعي الإنساني: يجد المجتمع في نفسه أنَّه من القوة، بحيث أصبح مسيطرا على غيره من المجتمعات، وتصبح صورته لدى غيره من الأمور المهمة، فيزداد اهتمامه وإنفاقه على الإعلام والعلاقات والتسويق، ويُظهِر للناس أنَّه حامي القيم السامية والمسؤول الأول عن نشرها عالميا بين غيره من المجتمعات.
تمثل الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأوضح للوعي الإنساني، فهي المتحكمة الأكبر بوسائل الإعلام والمنفق الأكثر سخاء عليها حول العالم، كالصحف والشبكات الإخبارية والإنتاج السينمائي، وتضع نفسها معتمدة على قوَّتها العسكرية والتكنولوجية كشرطي بين باقي الدول يضمن حالة الاستقرار والأمن ويفض النزاعات في الكوكب، وليس تعيين باراك أوباما ذي البشرة السوداء رئيسا لأميركا إلا لتكريس هذا الوعي في ذهن الشعب الأميركي وغيره من الشعوب، لأنَّ الحكومة لاحظت انخفاض حالة الوعي إلى مستوى وعي التميز في عصر جورج بوش الابن، فقد ظهرت في عهده بدعة مستحدثة بالنسبة إلى الشعب الأميركي، وتعتبر روتين وأسلوب حياة عند الشعوب العربية، وهي الملاحقة الاستخباراتية للشعب، وانخفاض مستوى حرية التعبير.
لكن ما ينقص أميركا هو المنظومة القيمية الأخلاقية والروحية المتكاملة التي تنتقل بها لأعلى مستويات الوعي.
7) الوعي الرسالي: وهو أسمى درجات الوعي، وبه تقام أقوى الحضارات وأوضحها بصمة في التاريخ الإنساني.
بهذا المستوى من الوعي يصبح للمجتمع قيمة رسالية عليا متكاملة، يسعى لتحقيقها ونشرها، ويطوّر ويكثّف من إنتاجه الحضاري المادي بما يخدم هذه القيمة.
دول الخلافة الإسلامية (الراشدية، والأموية، والعباسية، والعثمانية)، هي أفضل أنموذج لمستوى الوعي الرسالي، فالإسلام بشمولية منهجه واحتوائه على قيمة رسالية لكلِّ الشعوب يعتبر الحافز الأكبر لنمو وعي الشعوب وارتفاع مستواها الحضاري.
اليوم لا توجد دولة حققت هذا المستوى من الوعي، وتحاول بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية الوصول إليه، عبر تبنيها لقيم الديمقراطية، والعولمة، وغيرها.
وهذا يفسر خوف أميركا من الجماعات أو الدول التي تتبنى الإسلام بكافة قيمه وشرائعه وتنادي بنشرها وإقامتها، لأنَّ ذلك سينتج مع الوقت دولة قوية تزيح أميركا عن عرش الصدارة.
ملاحظة مهمة أوردها جريفز، المجتمعات في مستوى الوعي تقفز قفزات ولا تتدرج، فقد ينهض مجتمع ما من مستوى الوعي البدائي إلى الوعي الإنساني بفترة قصيرة جدا، وفي التاريخ أمثلة كثيرة عن دول وُلدت من مجتمعات مشتتة وبدائية، وتحولت إلى إمبراطوريات قوية كدولة الإسلام الراشدة مثلا، التي بدأت نواتُها من قبائل بدوية مشتتة واستطاعت بفترة قياسية تكوين امبراطورية حضارية بدرجة الوعي الرسالي.
بعد هذا الاستعراض الموجز لنظرية ” الديناميكيات اللولبية ” لكلير جريفز بإمكاننا الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية وهو: لماذا اليابان أكثر تحضرا من إفريقيا، ذلك لأنَّ مستوى الوعي عند الشعب الياباني أعلى، بسبب امتلاكه نسبة أقل من المشاكل، وأيضا في العقل الجمعي الياباني تجربة حضارية لمّا ينساها بعد وتعتبر حافزا له للعمل والإنتاج في كلِّ مشكلة تواجهه.
1 تعليق
حسن
الوعي ثم الوعي ثم الوعي