الأستاذ غسان الجمعة
الحقُّ في محاكمة عادلة هو أحد أبسط الحقوق في الدول التي تحترم سيادة القانون، إذ يظهر مفهوم الحق في محاكمة عادلة في الكثير من دساتير وقوانين الدول الديمقراطية، كما ينص عنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرَّته الأمم المتحدة في المادة 10 تحت نص “لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.”
لقد أحاط القانون السوري إجراءات التحقيق بضمانات تحمي المتهم في مرحلة التحقيق من العبث بحرمته، وتجعل استعمال التوقيف في نطاق الحكمة التي شُرِّع من أجلها، وهي أنَّ التوقيف ليس من أنواع العقوبات، بل أجازه المشرِّع لغايات لا يجوز تجاوزها لضرورات التحقيق واستكمالاً لأسبابه.
لكن القبضة الأمنية، وتغلغل المنظومة الاستبدادية للسلطة التنفيذية ممثلة بالمجرم بشار الأسد وباقي أفراد عصابته، جعلت من هذه الحقوق مجرد حبر على ورق عبر الالتفاف عليها بمحاكم استثنائية ولجان قضائية خارجة عن رقابة الكيان القضائي ومستثناة بمواد قانونية شرَّعها رأس النظام لحماية نفسه وطغمته التي تلوذ به ويحكم بها..
وقد أخذ دستور السوري بالضمانات التي كُرِّست لحماية الحرية الشخصية من تعسف السلطات حيذاً مهماً، فقد نصَّ في المادة الثامنة والعشرين منه على:
1- كلُّ متهمٍ بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم.
2- لا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون.
3- لا يجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً أو معاملته معاملة مهينة، ويحدد القانون عقاب من يفعل ذلك.
4- حقُّ التقاضي، وسلوك سبل الطعن، والدفاع أمام القضاء، مصون بالقانون.
وقد أعطى التشريع السوري ضمانات للمدَّعى عليه يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام:
أولاً- ضمانات المتهم المتعلقة بالمحقق:
مثل الصفات الشخصية، حيث يجب أن يكون المحقق على علم تامٍّ بأحكام القانون وما يتصل بها من علوم أخرى، كعلم الإجرام والعقاب وعلم النفس الجنائي، وأن يحسن التقدير حين اعتزامه إصدار أمرٍ بالقبض على شخص المتهم، وأن يتحقق من توافر الدليل بالقدر المبرر لاتخاذ هذا الإجراء، وأن يتمتع بالفطنة وحسن التصرف وبقوة الذاكرة والملاحظة وسرعة الخاطر في تتبع الوقائع والأحداث والإجراءات والربط بينها بما يضمن للمدَّعى عليه ممارسة حقه في الدفاع عن نفسه وإثبات براءته.
ثانياً- ضمانات المتهم المتعلقة بصفات التحقيق الابتدائي:
لقد وردت هذه الضمانات في المادة /70/ أصول محاكمات جزائية:
1- للمدَّعى عليه، والمسؤول بالمال، والمدعِي الشخصي، ووكلائهم، الحق في حضور جميع أعمال التحقيق ما عدا سماع الشهود
2- لا يحق للأشخاص المذكورين في الفقرة الأولى بحالِ تخلفهم عن الحضور بعد دعوتهم حسب الأصول، الاطلاع على التحقيقات التي جرت في غيابهم.
ثالثاً- ضمانات المدَّعى عليه في الدفاع:
عندما يمثلُ المدَّعى عليه أمام قاضي التحقيق، يتثبَّت القاضي من هويته ويطلعه على الأفعال المنسوبة إليه، ويطلب جوابه عنها منبهاً إياَّه أنَّه من حقه ألا يجيب عنها إلا بحضور محامٍ، ويدون هذا التنبيه في محضر التحقيق.
رابعاً- ضمانات المدَّعى عليه المتعلقة بإجراءات التحقيق:
أ_ الحق في المثول على وجه السرعة
حيث نصت المادة /104/ أصول محاكمات جزائية على أن:
1- يستجوب قاضي التحقيق في الحال المدَّعى عليه المطلوب بمذكرة دعوة، أمَّا المدَّعى عليه الذي جُلب بمذكرة إحضار، فيستجوبه خلال أربع وعشرين ساعة من وضعه في النظارة.
2- حال انقضاء الأربع والعشرين ساعة يسوق رئيس النظارة من تلقاء نفسه، المدَّعى عليه إلى النائب العام، فيطلب هذا إلى قاضي التحقيق استجواب المدَّعى عليه . فإن أبى أو كان غائباً أو حال دون ذلك مانعٌ شرعي طلب النائب العام إلى قاضي تحقيق آخر أو إلى رئيس المحكمة البدائية أو إلى قاضي الصلح أن يستجوبه، فإن تعذر استجواب المدَّعى عليه أمر النائب العام بإطلاق سراحه في الحال.
ب_ حقوق المدَّعى عليه أثناء الاستجواب:
الاستجواب في معناه القانوني يتضمن توجيه التهمة إلى المتهم ومواجهته بالأدلة القائمة قبله بمختلف أنواعها، ومناقشته فيها مناقشة تفصيلية ليفندها إن كان منكراً أو يعترف بها إذا شاء الاعتراف.
وأول ما للمتهم من ضمانات بصدد الاستجواب هي أن يجري التحقيق معه في مكان مؤهل لذلك، وفي ظروف تسمح بأن يدلي بأقواله في حرية تامة دونما تأثير من أحد ومن أهم هذه الحقوق:
1- الحق في التزام الصمت
2- عدم جواز تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف
ج_ ضمانات المدعى عليه في التفتيش:
التفتيش عمل من أعمال التحقيق الابتدائي يتم بقصد البحث عن أدلة جريمة وقعت، فيؤدي إلى المساس بحقِّ الشخص في الحفاظ على أسراره عن طريق تحري شخصه أو مكانه الخاص، وبما أنَّ التفتيش إجراء خطير يمسُّ الحرية الشخصية ويكشف عن ستار الحياة الخاصة فإنَّ المشرِّع قد أجازه بعد أن أحاطه بشروط وضمانات من حيث سببه ومحله والسلطة التي تقوم به وشروط تنفيذه حتى لا يساء استعماله فيغدو عملاً تعسفياً باطلاً مع ما ينتج عنه من آثار.
ويمكن إجمال هذه الضمانات بالآتي
1- إعلام النيابة العامة
حيث نصت المادة 95 أصول جزائية في الفقرة الأولى منها على: “يعطي قاضي التحقيق النائب العام علماً بانتقاله إلى موقع الجرم أو بقيامه بالتفتيش”
2- اصطحاب الكاتب لتنظيم الضبط
3- حضور المدَّعى عليه تفتيش منزله
4- وقت التفتيش: والأصل أن تفتيش الأماكن الخاصة يكون نهاراً، فلا يجوز دخولها ليلاً إلا في حالات الحريق أو الغرق أو الاستغاثة، ويرجع ذلك إلى ضرورة المحافظة على راحة وحرمة السكان في هذا الوقت المخصص للسكينة والنوم.
5- رضاء المتهم بالتفتيش: وهذا ما جاء عليه كتاب وزارة العدل حين نصَّ على: ” إنَّ تفتيش المنازل يجري في حالة الجرم المشهود أو وجود أمر قضائي أو إذن صاحب المنزل كما هي عليه أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية، والمتعلقة بالتفتيش، …”
وفي النهاية يمكنني القول: إنَّ ثقافتنا القانونية العريقة نصَّت أوَّل تشريع وضعي في العالم وضعه السوريون في عهد الملك حمو رابي قبل ما يزيد عن ثلاثة آلاف عام والتي سميت شريعة حمورابي التي هي أولى الشرائع الوضعية في العالم وأهمها، بل لم تسبقها شريعة وضعية أخرى، وقد استقت الحضارات الأخرى قوانينها منها.
لكن هيمنة السلطة التنفيذية بكافة مسمياتها على باقي السلطات في المجتمع ـ التشريعية والقضائية ـ وخاصة السلطات الأمنية والسياسية المرتبطة بالديكتاتور بشار الأسد يفسح المجال لبعض أفراد هذه السلطات ممَّن يستغلون مناصبهم التدخل في شؤون القضاة لصالح أحد أطراف الدعوى نتيجة القناعة المتأصلة لدى هؤلاء أنَّ هذه السلطات لها من القدرة ما يؤثر على مسيرة حياتهم بالكامل.
فالقاضي يلبي متطلبات هؤلاء الأشخاص التي تكون على الغالب شخصية ليس إلا، إمَّا حذرا من رأي هذه السلطة الأمنية، أو انصياعا لأوامر السلطة السياسية التي هو أحد أعضائها ومن واجبه -من وجهة نظره-أن يلبي طلباتها التي ترِده على شكل بلاغات أو قرارات، أو لحاجته إلى أُعطيات السلطة التنفيذية، وهذا ما يؤثر سلبًا على صحة القرار الصادر، وبالتالي على عدالة المؤسسة القضائية، وهو ما جعل من نظام القضاء السوري في فترة حكم آل الأسد أداة لقمع المعارضين، و دعم حكم النظام السياسي القائم على الفاشية المطلقة.