بشير جمال الدين
إذا كان العِلم يدعو إلى الإيمان كما يقول كريسي مورسون، فإنَّ نصف العِلم يدعو إلى الكفر.
وإذا كان الإسلام بكليّته يرقى بالإنسان إلى أعلى مراحل الكمال البشري والتقدم الحضاري، فإنَّ نصف الإسلام لا يحقق نصف التقدم بل يجعل من المسلم كائناً متخلفاً قشورياً سطحياً تلطمه الخطابات العاطفية ولا يكاد يثبت له شراع أمام محاكمة عقلية. وأكثر ما تتكرر حالات التدين القشوري عند من يكون التزامهم بالدين التزاماً طارئاً غير ناتج عن تراكم تربوي، فيَشرعون بتطبيق الإسلام فقهاً إرضاءً لنزعة الالتزام الفطرية واستجابة لنزوة المثالية والكمال الظاهر، وغالباً ما يتأثر بداعية سبقه على نفس الدرب ومثّل له شخصية الفرد منسلخاً عن طبيعته الإنسانية معصوماً عن الخطأ، وهذه الظاهرة من أخطر ما قد يتعرض له فرد في بداية التزامه، لأنَّها مقدمةٌ لانفصام ديني يتكوّن من مضاعفات شعوره بالبون الشاسع بين تلقي المثاليات في الخطب ومعاينة الواقع المتردي.
هذا الشعور يدفعه للهروب إلى الأمام، فيفرّ من ذاته الجديدة الملتزمة إلى حالة مخففة من ذاته القديمة، تجعله يحتال على وعيه، فيطبق الدين فقهاً على نفسه وغيره؛ وفي اللحظة التي ينطلق فيها باتجاه الغير ليُقوِّمه يضيق مجال الرؤية لديه فلا يبصر إلا مخالفات الناس من حوله ويعزوها مباشرة إلى جهلهم ويتبوأ مكانة القاضي ويوزع الاتهامات عليهم، ثمَّ بالتقادم تنتقل حالة كونه متهماً غيره بالجهل إلى حالة من انتقاص إخلاصهم بتناسب طردي مع شعوره بأنَّه المُخلِص والمُخَلِّص أيضاً وما يلبث أن يرى نفسه وصياً عليهم. كلُّ ذلك وهو لم يتعلم بعد من الدين إلا بعض فقه العبادات وجانباً من العقيدة. هنا تحديداً تطفو ظاهرة التدين الفقهي على سطح المجتمع وتتجلى باختزال الإسلام بدعوات لإقامة الحدود. فتتكرر آياتها في كلِّ مجلس وعند كلِّ محفل، وهي لم تبلغ 10 آيات من كتاب نزل بـ 6236 آية.
غير مدرك أنَّ ذلك تسطيح للدين وتهميش لجوهره، فالاكتفاء بالطقوس الدينية وإهمال الروح والمقاصد الجوهرية للإسلام يفرغه من مضمونه؛ وبالمقابل فإنَّ اختزاله بكهنوتية مُفرطة يُميّع تطبيق الشريعة ويعطِّل الإسلام كنظام حياة متكامل ويوقف عجلة الحضارة، ثمَّ إنَّ ممارسة العبادات لا تعفي صاحبها من واجبه الأخلاقي تجاه الغير، ولا تضفي عليه قدسية تُمَكِّنه من اجتهادات فقهية تسوّغ له بعض سلوكياته. فإتيان الأخطاء فعلاً وتحريمها قولاً ونصاً أوسع باب للنفاق قد يدخله الفرد.
شيزوفرينيا التدين:
وهذه الحالة من الانفصام بين ما يعلمه عن نفسه من جهل في لحظة صراحة مع الذات، وبين ما يلبسه من ثوب التَّعالم والتَّفاقه والنخبوية والوصاية على الآخرين تجعله منكفئاً على جهله منطوياً على جموده فيلجاً إلى الفتاوى الهاربة من لفائف التحنيط، المنحوتة قبل عشرات السنين بقالب يناسب الظرف آنذاك ليسقطها على واقع معاصر معفياً عقله من الفاعلية المأمور بها لفهم ما يناسب مقتضى الحال.
وربَّما تتفاقم الإشكالية ويتضاعف أثرها سلباً عندما يتسلَّم هذا النوع من المتدينين سلطة على الناس. فتراه يلتزم الإقصائية منهجاً ويَئِدُ جذوة الرغبة باكتساب العلم والمعرفة؛ فقد فات أوانها، وحان وقت تطبيق الشريعة وتمكين الدين! وهو في حين إنَّه جاهل إلا من بعض الفقه النظري فإنَّه يظن نفسه عالماً، وبالتالي ينتج لدينا نموذج للشخصيات الأكثر ضجيجاً وجلبة دينية وأكثرها ضرراً وشغباً.
وهي الجديرة بالرسوب في اختبار التدين الحقيقي الذي تظهر تحدياته في ميدان العمل، فالاختبار الحقيقي يكون في مآل الأمور لا في مقدماتها.
عندما يقول إنسان عن نفسه إنَّه طبيب لن أسأله عن شهادته فحسب؛ بل عن مريض عالجه فأرى انعكاس خبرة الطبيب على صحة المريض، كذلك الدين فإذا قال إنسان عن نفسه إنَّه متدين، سأطلب منه أن يريني تدينه عندما تسلَّم سلطة ومالاً وبلاداً وعباداً وعلاقات وأعمال، هنالك فقط أستطيع أن أحكم على صحة فهمه للدين، وأرى ترابط الدين بالمتدين وعلاقة النص بالعمل.