نورس العبد الله
لقد سنَّت الشريعة الإسلامية مجموعة راقية وحازمة من القواعد الناظمة لحالة الحرب بدءاً من الإعداد لها وأسباب اندلاعها وغاياتها والإعلان عن بدئها ونهايتها وحماية المدنيين والممتلكات وتحييدهم وتحييد الأماكن الدينية وتلك ذات الرمزية والمعاملة الحسنة لأسرى الحرب وغيرها الكثير من القواعد.
ولقد شكلت مجموعة القواعد تلك فلسفة قيمية متكاملة ومتميزة لحالة الحرب في الإسلام، ترتكز في بنيانها الشامخ على أساس متين ذي قيمة كبرى وهي قيمة الحياة، فالإسلام يعظم من النفس الإنسانية ويرى أنَّ الحياة البشرية تقوم على التعاون والتكافل والتعارف بين البشر ولا تقوم على الصراع والعداء والقتال، تلك النظرة والدعوة الجليلة تسعى لإرساء أمن وسلم عالميين حقيقيين، ويغذي ذلك الأساس الرصين عناصر من قيم الصبر والرفق في التعامل والإحسان بغية نسج علاقات إنسانية رفيعة تموج بها معاني النقي الوجداني والرقي الأخلاقي.
وبما أنَّ الإسلام اعتبر حالة الحرب حالة استثنائية وضرورة لا بدَّ منها في بعض الأحيان، فإنَّ ذلك لم يعنِ أبداً بنظر الإسلام فتح الباب للتوحش والغرائز الشريرة والإفساد في الأرض وإفناء الحرث والنسل، بل تلك الضرورة استثناء محدود عن الحالة السليمة للتعاون بين البشر، فيقدر الاستثناء بقدره ويحكم بضوابطه، فلا يباح للمقاتلين المسلمين سفك دماء لا ضرورة لسفكها ولا إتلاف مال ولا ما نهجت عليه الجيوش من أعمال الانتقام والاغتصاب والحرق والتمثيل والتنكيل وجعل أعزة القوم أذلة، فتلك الفظائع تبقى فظائع سلماً وحرباً، ولا يكيل الإسلام بمكيالين في ذلك كما فعلت نظريات وفلسفات جعلت الفضائل في التصرفات بين شعوبها وأعراقها وأباحت كلَّ الآثام بل حضَّت عليها بحقِّ الآخرين.
لذلك إنَّ إزهاق النفس البشرية التي خلقها الله تبارك وتعالى استثناء من أصل حفظها، فكان الحثُّ على صون حياة المدنيين وحمايتهم صريحاً واضحاً في كثير من المواضع، بل أعطى الإسلام للفئات الأضعف من نساء وأطفال حيزاً واضحاً وصريحاً خشية عليهم من الأذى، فتعددت النصوص في تنبيه الجيوش المسلمة من خطورة وحرمة إلحاق الأذى بهم، وتتجلى روعة وأخلاقية ذلك أيضاً أنَّهم وإن اشتركوا قتالاً في المعركة لا يجوز قتلهم إلا مقبلين، ويحرم قتلهم عند هروبهم وإدبارهم، وكذلك الحال مع الشيوخ والرهبان والعجائز.
وحتى تلك الأنفس التي اشتركت في القتال ووقعت في الأسر فقد شملها الإسلام بقيمه وحثَّ على حسن معاملتها ولها تفصيل محكم في معاملة الأسرى لا يتسع لها المقام هنا.
ولما كانت فلسفة الإسلام هي البناء والعمران وليس الهدم والتخريب، كان النهي عن الإتلاف والنهب والحرق والدمار، كما لم تجز قهر الشعوب المغلوبة وإذلالها في مقدساتها أو مصادرة حريتها الدينية أو الازدراء لسلوكياتها وأفكارها.
وتبدو الروعة الأخلاقية في أعلى صورها من خلال التمييز بوضوح بين مفهومين دقيقين يخلط بينهما الكثير من الناس وهما: الغدر والخدعة، فحرم الإسلام الأولى أي الغدر حتى في حالة الحرب وعزلها عن الخدعة العسكرية المشروعة؛ لأنَّ الغدر فعل خسيس بغيض ويحط من قدر صاحبه وهو ما لا يرضاه الإسلام للمقاتل المسلم الذي يقاتل أساساً لغاية نبيلة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم من أمير العامة” وكان حقاً عبر صفحات التاريخ التزام جيوش المسلمين بعهودهم ومواثيقهم ونبذ الغدر عن تصرفاتهم.
من ذلك نرى أنَّ للإسلام فلسفة متوافقة ومتوازنة في الحرب تشكل نسيجا متينا مترابطا لا يعتريها خلل في موضع أو عيب أو زلة، تبعد البشر قدر الإمكان عن الحرب وشرورها وتدعو للتراحم والتعاون وتسمو بالمشاعر الإنسانية وتقدرها في كلِّ وقت.
فلا يوجد في قاموس الإسلام وأخلاقياته تحريض على حروب ضد الأعراق أو القوميات الأخرى؛ إذ الناس سواسية كأسنان المشط لا يفاضل بينهم سوى أعمالهم الذاتية، ولا يوجد في قاموس الإسلام أيضاً أي تحريض أو تبرير لحروب تهدف لاستعباد العباد واجتياح البلاد، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فمشروعيتها من قيمها السامية.
إنَّ هذه القيم هي قِيَم في منطلق القضية وخلالها وما بعد انتهائها، هي الإنسانية وكرامة الإنسان التي يجب الحفاظ على الحدِّ الأدنى منها في الحروب وما بعدها، والتي تفتح الباب وتحضُّ على جعلها في الحدود العليا بل الإبداع فيها عبر الزمن، فمن زاد من الإحسان لأخيه الإنسان فله أجره عند الله لا يبخسه شيئاً منه ويضاعف لمن يشاء.
حقيقة لقد كانت هذه الفلسفة فريدة وغير معهودة من قبل في أمَّة من الأمم، هذَّبت من هيجان الأنفس في فترة زمانية ومكانية تسمى عند العرب بالهيجاء، ورفعت قيم الإنسانية في أكثر المواقف انفعالا وكرهاً.
ويبقى السؤال هنا: ماذا عن منتجات البشرية في هذا المجال؟ وكم استغرقت من وقت وعصور؟ ومتى بدأت تتشكل قواعد وقوانين لحالة الحرب في المجتمع الدولي وما هي مصادرها؟