طلال شوار
لا يختلف اثنان على أهمية سورية وتأثير ما يحدث فيها على المصالح الاستراتيجية لكلٍّ من إيران وتركيا على السواء، فكلا البلدين ترتبط مصالحهما بقوة في هذا البلد مع اختلاف الدوافع؛ ففي الوقت الذي تشكل فيه سورية عمقاً مذهبياً طائفياً، واستكمالاً للهلال الشيعي المزعوم، ومنفذاً مهما على المتوسط بالنسبة إلى إيران، نجدها تشكل لتركيا عمقاً جغرافياً وممراً مهما لتعميم تجربة العدالة والتنمية على البلدان العربية والإسلامية، ومناخاً ملائماً لترويج الصناعة التركية المزدهرة في العقدين الأخيرين.
القيادة الإيرانية ليست أكثر حنكة ودهاءً من القيادة التركية في التعامل مع المحيط الإقليمي ومتغيراته، وليست أكثر حرصاً منها على الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، لكن الفارق هو في المبادئ والقيم.
ففي حين تقوم استراتيجية إيران على العربدة والإجرام، وتصدير ثورتها الخمينية البائسة، وتحقيق حلم هلالها الشيعي دون الالتفات إلى الموانع الأخلاقية والقيم الإنسانية، بل تعتبر سفكَ الدماء ونشر الدمار في بلاد المسلمين الطريقة الأمثل مستندة إلى فتاوى سوداوية متطرفة من مرجعيات وعمائم قُم السوداء، في الوقت الذي نجد فيه على الضفة الأخرى قيادة تركية حداثية تحمل رسالة حضارية نهضوية يوجهها نفس إسلامي معتدل تعمل على تعميم معجزتها، إن صحَّ التعبير، التي كان قوامها وعماد نجاحها صون كرامة الإنسان في بلاد المسلمين.
يدعم ما تقدم: ما ظهر على الأرض من سياسات البلدين في سورية قبل وبعد الثورة،أمَّا ما قبلها فكان جلُّ اهتمام الإيرانيين نشر التشيع وبناء الحسينيات وإغراق الرأي العام في وهم المقاومة والممانعة المزعومة لصرفه عمَّا يخطط له، وعندما انطلقت الثورة كشرت عن أنياب حقدها ونشبت مخالبها وتمترست خلف النظام المجرم لتدعمه بكل ما استطاعت من عدة وعتاد في مواجهة شعب أعزل لتريق من دم السوريين خلال أعوام معدودة على يد ميليشياتها الطائفية أضعاف ما أراقت إسرائيل من دماء الفلسطينيين والعرب مجتمعين، وعلى مدى ما يقارب القرن من الزمان.
بينما كانت تركيا ما قبل الثورة تعمل على تقوية العلاقات الاقتصادية مع الحكومة السورية وتعقد الاتفاقيات المشتركة وتسعى للتقارب بين الشعبين السوري والتركي، وعندما انطلقت الثورة حاولت معتمدة على علاقتها المتميزة مع النظام أن تقدم له النصح وتقنعه بأن يسمع نداءات الشعب الثائر دون جدوى، لتجد نفسها منحازة إلى الشعب المقهور، وتقدم له ما استطاعت من دعم في مختلف المجالات، لكن من وراء الحدود دون أن يكون لها وجود مباشر على الأرض على الرغم من امتلاكها القوة العسكرية التي قد تفوق القوة العسكرية الإيرانية بكثير، والسؤال المطروح هنا: هل وحدها المبادئ والقيم هي التي حكمت سياسة البلدين في سورية؟ أم أنَّ هناك عاملاً خفياً فرض تلك السياستين المتناقضتين؟
الجواب البديهي: نعم، والسبب لا شكَّ هو المجتمع الدولي عموماً وأوروبا وأمريكا على وجه الخصوص، فعلى الرغم من العداء ( الإعلامي ) بين الغرب وإيران، والتقارب ( الإعلامي ) أيضاً بين الغرب وتركيا إلا أنَّه في واقع الأمر الذي يغيب عن أذهان الكثيرين أنَّه لا عداوة البتة بين الغرب وإيران (الخنجر المسموم) في خاصرة الأمة، ولا ود ووئام بين الغرب وتركيا ( الخلافة العثمانية ) التي باتت البعبع الذي يهدد أحلام الغرب ويستحضر من التاريخ القريب صورة أجدادهم العثمانيين وجيوشهم التي دكَّت حصون أوروبا وهزَّت عروش ملوكها وقضّت مضاجعهم لقرون، في الوقت الذي كان فيه أجداد الإيرانيين (الصفويون) ينفحون عن أوربا ويطعنون بني عثمان في الظهر.
ولأنَّ ذاكرة الأوربيين حاضرة ومتيقظة لم ينسوا لأحفاد العثمانيين فعلة أجدادهم كما لم ينسوا لأحفاد الصفويين فضل أجدادهم، وعليه فقد تركوا لإيران الحبل على الغارب في سورية تعيث فساداً وإفساداً لتهلك الحرث والنسل، في حين كانوا يحسبون على تركيا حتى أنفاسها، ولولا حنكة القيادة التركية وحسن تدبيرها بالتعامل مع القضية السورية لوصلت بها الأمور لأسوء ممَّا آلت إليه في سورية.
والخلاصة نستطيع القول: إنَّ كلتا السياستين نجحتا نسبيًا ولحدٍّ ما؛ فإيران استطاعت أن تمدَّ في عمر مشروعها، لكن لا بدَّ من أن يأتي الوقت الذي يقلِّم فيه الغرب أظافرها ويعيدها إلى القمقم الذي أخرجها منه وهذا ما نتمنى ألا يطول انتظاره، أمَّا تركيا فسياستها حتى الآن ناجحة وإن شابتها بعض الأخطاء، لكن الغرب لن يتركها تصل إلى عام (202 وهي بكامل عافيتها وقوتها، وسيعمل ما استطاع لإنهاكها والنيل من قوتها وصمودها، وهذا ما لا نتمناه لأنَّ قوة تركيا وعافيتها هي الأمل الذي تبقى لأمتنا الإسلامية وعليه تعقد الآمال.