أحمد الأحمد
كثيرة هي المواضيع التي نملُّ من الحديث عنها، لكن أن تتحول هذه المواضيع إلى مشكلة لا تلبث أن تختفي حتى تعود لتطلَّ برأسها على المجتمع، عندها تكون ظاهرة تستحق الوقوف عندها وإظهار ما خفي منها أو تمَّ إخفاؤه عن أعين الكثيرين من الناس بدراية منهم أو غياب البصيرة، ليقعوا بمشاكل اجتماعية كانوا بمنأى عنها فيما لو فتِّحت عيونهم عليها قبل وقوعها.
فمع سنين الأزمة في سوريا عادت ظاهرة زواج الفتيات القاصرات من جديد، لترسم أيقونة تعٍب اجتماعي ونفسي تضاف إلى متاعب المجتمع الذي أنهكته مشاكل الحرب والفقر والتهجير…
ولكي نفهم مَن هذه الفتاة التي تسمى (قاصرا) قانونياً حدَّثنا المحامي الأستاذ (ياسر بطَّال) عن هذه الظاهرة قائلاً: “إنَّ القانون ينظر إلى كلِّ فتاة لم تبلغ الثامنة عشر من عمرها على أنَّها قاصر، ويتحمل وليُّ أمرها مسؤولية المشاكل والتبعات التي تلحق بالفتاة لدى زواجها قبل سنِّ الرشد هذا…
وإن كثيراً من الجمعيات المنظمات الحقوقية الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني تعتبر أنَّ الفتاة في هذه السنِّ قاصرا وما زالت في مرحلة الطفولة، هي تنمو جسدياً ونفسيا ضمن هذه السنين من العمر، وهي تعارض بأي شكل من الأشكال زواج هذه الفتاة في هذه الفترة الحساسة من عمرها، وتعتبر ذلك عملا جنائيا يُحاسب عليه وليُّ أمرها.”
وعن أهم المشاكل الاجتماعية والنفسية التي تعترض الفتاة في زواجها المبكر يحدثنا المرشد النفسي والاجتماعي الأستاذ (مصطفى الصالح): “إنَّ زواج الفتاة في سنٍّ مبكرة يضعها تحت وطأة آثار نفسية كبيرة، إذ إنَّ الفتاة تجد نفسها في عالم جديد تحت ظروف غريبة عنها من الناحية التربوية الاجتماعية والنفسية، وإنَّ كثيرا من العادات الجديدة التي تحكم الحياة الزوجية كانت محرمة اجتماعياً وأخلاقيا وهي مازالت في طور النمو العقلي والجسدي وحتى النضج الجنسي لم يكتمل عندها بعد، فضلا عن أنَّ هذا الزواج يحرمُ الفتاة من أن تعيش طفولتها الصحية في منزل احتضنها وتعللت بدفء حنانه دون أن يترتب عليها مسؤوليات كبيرة في ذلك المنزل، لتصبح وقد حملت من المسؤوليات الجثام وهي مازالت تعيش أحلاما طفولية كبيرة، ثمَّ إنَّ زواجها هذا سيحرمها من حقٍّ كبير وهو حقّ التعلم، فتترك مدرستها وتعليمها لتحمل مسؤوليتها المنزلية الجديدة، حيث إنَّها ستقوم بتربية أطفالها وهي مازالت في سنِّ الطفولة مثلهم، ممَّا يترتب على ذلك تنشئة جيل غير سليم ولا صحي اجتماعياً، وكلنا كنَّا نردد أنَّ الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراف، وبذلك لم تعد علمياً واجتماعياً لتكون أمًّا مربية منشئة ذلك الجيل المطلوب منها، هذا فضلا عن المشاكل البيتية والعائلية التي ستصادف هذه الأم الطفلة في بيت زوجها، وقد أشارت كثير من الدراسات والبحوث إلى أنَّ معظم حالات الطلاق سببها الزواج المبكر من القاصرات.
وقد سألنا أحد الآباء المدعو (مصطفى سليم الحسن) عن سبب عودة هذا الزواج المبكر إلى الظهور فقال: “إنَّ الظروف المعيشية والاقتصادية التي تمرُّ بها الأسرة السورية دفعت كثيراً من الآباء لسحب بناتهم من التعليم والمدرسة، هذا إن كانت الظروف تسمح أصلاً لهذه الفتيات بالوصول إلى المدارس والتعلم، ثمَّ إنَّ زيادة المصاريف الكبيرة أرهقت كاهل معيل الأسرة الذي يضطر لتزويج بناته في سنّ مبكرة لخفض عدد أفراد الأسرة، وبالتالي نقص المصاريف والمتطلبات اليومية عليه، هذا إن لم نحمِّل الإرث الاجتماعي جزءاً من المسؤولية وخوف الأهل من المجهول بالنسبة إلى ابنتهم واعتقادهم أنَّ الزواج المبكر عامل استقرار نفسي ومنبعٌ للشرف والعفة والمحافظة على سمعة وشرف الفتاة وعائلتها.”
هذا وقد التقينا أحد الأزواج المدعو (يونس الشمعة) وقد سئل عن عمر زوجته فقال: “إنَّها الآن أمٌّ لثلاثة أطفال، اثنان منهم توأم، وقد بلغت من العمر الآن خمس عشرة سنة، وتدير منزلها بأحسن ما كان متوقعاً منها، وهي بحالة نفسية واجتماعية ممتازة، فرِحة في تربية أطفالها، لكن مع وجود بعض الصعوبات التي تعترض حياتنا المنزلية نفسية كانت أم عائلية، إذ إنَّها تصرف جلَّ وقتها مع أطفالها، كما عانت كثيراً في الحمل والإنجاب، وأخذت كثيراً من وقتي في مساعدتها في المنزل أثناء شهور الحمل والرضاعة، والآن نعيش في وضع اقتصادي مقبول ومستقر، لكنَّها تحنُّ بشكل دائم الى أيام طفولتها الدراسية التي قد حُرمت منها.”
ولكي نفهم رأي الدين بهذا الزواج المبكر حدثنا الشيخ (محمد الإسماعيل) عن ذلك قائلاً: “إنَّ الإسلام يريد أن تكون الفتاة ناضجة جسميا وخلقيا، وأن تكون متعلمة مؤمنة لتنشئ أبناءها على حبِّ الخير والعفة وتعلمهم دينهم وكتابهم، ولا بأس إن كانت بين الثانية عشر والخامسة عشر من عمرها، وقد اكتمل نموها الجنسي والجسمي والنفسي.”
هذه إضاءة عن ظاهرة اجتماعية توَافق الكثير على أنَّها ترقى إلى مصافي الأمراض الاجتماعية، وحلُّ هذه الظاهرة يكمن في حلول اجتماعية أخرى، من استقرار عائلي واقتصادي، وأمن اجتماعي لعودة بناتنا إلى مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات.