أنس إبراهيم
من يقرأ كتاب قوانين النهضة “القواعد الاستراتيجية في الصراع والتدافع الحضاري” للدكتور جاسم سلطان يتبيّن له عن كثب نقاط الضعف التي تصيب كلَّ الحركات الانقلابية، ما عدا السيساوية منها، فهي لا تخضع للنهضة في شيء، والأحزاب السياسية وحتى الثورات الشعبية بالشلل التام أو بالحركة في المكان نفسه دون أي تقدم في تحقيق أهدافها المنشودة ولا سيما الثورة السورية التي بدورها تشرح بتعقيداتها العميقة تلك الفجوة المتباعدة بين واقعها وبين التمسك بأي مبدأ من مبادئ قوانين النهضة المذكورة في الكتاب.
ومن أولى تلك القوانين (الفكرة المركزية)، فلا تتحقق أي نهضة إلا إذا كونت فكرة مركزية؛ وهي في جوهرها تمثل مجموعة من المسلمات والعقائد التي يبنى عليها نظام القيم، ويصطبغ بها نظام المجتمع الأساسي ونظمه.
ولأنَّ المجتمع السوري الثائر يشكل نواة الفكرة المركزية بمفهومها السابق في شقها الأول التي انطلق من أجلها، أخذت كلُّ الفصائل والأحزاب في الداخل السوري تبني كلَّ واحدة منها فكرة مركزية خاصة بها لتصبغ بها ذلك المجتمع الأصلي الذي أظهر ثباته، وتشده إلى طرفها بوصفها ممثلاً قادراً على النهوض به والوصول من خلاله إلى تحقيق أهدافه المنشودة.
ولكن تفاقم الأنا لدى الفصائل أجمعها نسيت أنَّ لكلِّ فكرة مركزية جزأين: جزء صلب؛ وهو الذي يُعطي الوصف للفكرة وهو الذي أُشبع اجتهاداً، كلٌّ منهم على حسب مشروع داعميه، وجزء مرن؛ وهو الذي يستجيب لاحتياجات كلِّ مجتمع وخصوصياته من خلال الواقع الذي لم يرد نصٌ تشريعي فيه ويصبّ في تحقيق مصلحة المجتمع، ويعدُّ هذا هو الوتر الذي أتقنت اللعب عليه معظم مكونات الثورة.
ومن هذه القوانين أيضاً قانون (اختيار الشرائح)، إذ عادة ما تبدأ عملية التغيير من نقاط أو قضايا ملحة، حيث تتكون رؤية جديدة من التشكل الاجتماعي، أو يبرز تيار يرغب في المغالبة، أو فئة محرومة، أو دين جديد، أو قضية جديدة، كنقطة تبدأ منها عملية الحراك.
وتحتاج كلّ حركة تغييرية إلى ثلاث شرائح مختلفة، حيث تعبر كلّ شريحة عن طبيعة المرحلة التي تمرُّ بها الحركة التغييرية، وهذه الشرائح الثلاث هي: شريحة البدء، وشريحة التغيير، وشريحة البناء.
وإذا ما قمنا بتوزيع هذه الشرائح على مراحل الثورة السورية منذ انطلاقها إلى الآن نراها تبدأ بالشريحة الأولى، وهم الرعيل الأول من الثوار الذين اجتمعوا حول فكرة الانسلاخ عن نظام الجبر والقهر في مجتمعنا في مرحلة السبعينيات إلى حينها.
هؤلاء الثوار الأوائل كانوا أهلاً لتحمل تبعات قرارهم واختيارهم من خلال استعدادهم للتضحية من أجل ثورة شعب أراد أن يتنفس الصعداء خارج أوكسجين النظام وأجهزته الأمنية.
وبالفعل سلمت تلك الشريحة قيادة الثورة بعد صبرها وثباتها على بطش قوات أجهزة النظام بها في المظاهرات السلمية قبيل تسليحها إلى شريحة ثانية من عمر الثورة الجديدة، وهي شريحة التغيير التي لا بدَّ منها لتغير معطيات واقع الثورة؛ إذ يشترطُ فيها القدرة على إعطاء المنعة والتمكين، أو ما يطلق عليها في التعبير الشرعي “ذوو الشوكة” الذين يستطيعون تغيير الأوضاع بعد مرور فترة ضعف واستضعاف على رواد حملة الثورة طيلة مجابهتها لأدوات القمع بصدورها العارية وهي تحمل فكرة الثورة المركزية في إسقاط النظام وكلِّ أركانه ورموزه.
غير أنَّ هذه الشريحة التي من المفترض أن تدير زمام حراك الثورة العسكرية والسياسية على حدٍّ سواء نحو الهدف الاستراتيجي لها عملت على تغيير مجريات الأحداث بعد اشتداد عودها وتحشيد طاقاتها وفق مصالح فكرتها الشخصية مستخفين بشعار فكرة الثورة المركزية؛ إذ لا مبرر لوجود تلك الفصائل إلا بوجودها، ولا شرعية لها إلا من الدفاع عنها.
لقد دخلت هذه الشريحة سوق استعباد هذه الثورة والاستيلاء عليها من أوسع أبوابها وبين أعتى دول العالم قوة التي تتضارب مصالحها مع مبادئ الثورة السورية، حيث أدخلت هذه الشريحة نفسها في منظومة الخضوع والانقياد الاستراتيجية التي أنهت قضية المطالبة بالظفر إلى تحقيق التوازن فقط، والذي استشرى فيها فيروس الدعم، والذي بدوره أدَّى إلى وصولهم حدَّ الترف والنعيم، الأمر الذي انتزع صمام ثورة المدافعة عن تحقيق المطالب المنشودة وشلت فعالية العصبية المناصرة للثورة لدى كثير من أهلها وألغى دورها وربَّما انسحاب اخراطها السابق في قيادة قضيتها والتخلي عنها.
إذاً ممَّا تقدم يتبيّن لنا أنَّه لا دور للشريحة الثالثة في مرحلة البناء والتقدم ولا سيما أنَّ قضيتهم التي يؤمنون بها قد وُضِعت العصي في عجلاتها من قبل أبناء شريحتها أنفسهم؛ فكأنَّنا نرى فصائل جيش المقاومة عن الثورة هي فصائل طوائف لا فصائل مكوّن واحد، وفصائل إثنيات عرقية لا فصائل أمة تنتمي إلى نبي خاتم، ولذلك نقول: إمَّا أن تشكّلوا كياناً باسم الشعب السوري، وإمَّا أن تتلاشوا ضمن تداخل شباك المؤتمرات السياسية، فلم يعد لتشكيلاتكم أي مبرر.