سلوى عبد الرحمن
وحيدة على أحد الأرصفة، تجلس بجوار الحديقة بشكل شبه يومي، هي امرأة عجوز تجاوزت الـ 75عامًا، تقعد تحت ظل شجرة في يوم صيفي حار منهكة ومتعبة، بدت وكأنَّ الزمان جار عليها وتوالت نوائب الدهر فوق رأسها أو تنتظر صدقة من أحد المارة، أول ما لفت انتباهي شرودها وعيناها الدامعتان ويداها المرتجفتان، اقتربت منها لأرتاح قليلًا فأنا أيضًا كنت مرهقة وأحمل بعض الأغراض، جلست بجوارها ثم تبادلت معها الحديث.
تعرفُ بين سكان المنطقة بــ “أم محمود” أرملة منذ ما يقارب الـ 50 عامًا، ربت 3 أولاد من مدينة إدلب تزوج جميعهم، والآن تعيش وحيدة، فبناتها يعشنَ مع أزواجهنَّ وأولادهنَّ في محافظات أخرى، أما محمود وحيدها يسكن في حماة، وعند سؤالي لها لمَ لا يأتي ليعيش معها؟! اغرورقت عيناها بالدمع وتحشرج صوتها وأجابت: “إنَّه مريض لا يستطيع المجيء، هكذا قالوا لي هكذا قالوا لي” كأنَّ قلبها يخبرها أنَّه مات عندما كررت تلك الكلمات، إضافة إلى أنَّها لم تسمع صوته منذ شهور.
لامست من كلماتها أنَّها أمُّ شبيّح مصاب بسبب الحرب، وعلى الأغلب أنَّه قتل ولم يخبروها لتبقى على قيد الأمل، لكن لمن تركوا هذه العجوز وحيدة لا تكاد تحمل قدماها على المسير؟
حاولت استدراجها فيما إذا كانت تحتاج نقودًا، فسألتها: أين تفطرين في رمضان، وهل لديك أقارب؟
لم تتردد هذه المرة في الإجابة، وأشارت إلى السماء بدموع ملأت تجاعيد وجهها: “خير الله كتير”، لم تكن تنتظر مساعدة أحد، على عكس ما كانت تبدو عليه، فثيابها البالية الممزقة توحي بأنَّها متسولة.
تابعت والحسرة في عينيها متلعثمة بحروف لا أكاد أفهمها: “هالناس ما بقي بلقبها رحمة، والله يا بنتي شو ما حكيت ما بيردوا أو بيضحكوا”.
ما أثار استغرابي هو أنَّني بعد أسبوع من لقائي بها شاهدتها بين أكوام القمامة لا أدري عمَّ تبحث! تتوقف قليلًا وتتكئ على عصاها ثمَّ تنظر حولها فتتابع البحث فلا طاقة لها على الوقوف فترة طويلة، تساءلت بيني وبين نفسي: أهي أيضًا تعمل ببيع الخردوات، أم أنَّها عادة كباقي العجائز بحب اقتناء الفوارغ والأشياء التي لا لزوم لوجودها؟
لطالما ارتبطت الحِكم والنصائح بكبار السن سابقًا، إلا أنَّ معظمهنَّ الآن يعانين من النسيان والضياع، ناهيك عن مظاهر الفقر والشقاء التي باتت واضحة على وجوههنَّ بعد الحرب السورية، وأثقلت كاهلهنَّ بسبب الهموم والمتاعب، وأرهقت الشباب، فما بالكم بالعجائز ممَّن لاحول لهم ولا قوة؟!
تشعر أم محمود بالخجل أمام جثامين الأطفال والشباب حين قالت: “نسيني الموت” فبدلًا من أن يرعى الأبناء آبائهم العجائز، بات الآباء يعيلون أولادهم وأحفادهم، بسبب الموت أو الإعاقات التي سببتها الحرب، فيبقوا وحيدين متكئين على الذكريات التي بات أقربها إلى ذاكرتهم مؤلمًا.
ما ذنب العجائز إن كانت الحرب استهدفت الشباب والأطفال الذين هم الأمل والحياة وتركتهم أحياء؟!
لم تسعَ أم محمود خلال حديثها على استمالة مشاعري، بل كانت تتحدث بعفويتها، فتارة تمدح الناس الجيدين، وأخرى تسبُّ المسيئين، فعلى ما يبدو أنَّها ليست عاجزة على استيعاب ما يجري حولها، بل أصبحت قادرة على ترويض مشاعر الألم والأمل وإيمانها بعودة ابنها لم يتلاشَ، فمازالت تعيش على الأمل.