د.ياسر العيتي
تنتصر الثورة عندما تحقق الهدف الذي ثار الناس من أجل تحقيقه. قامت الثورة السورية لتحقيق هدف واضح صدحت به حناجر مئات الألوف من السوريين في كل أنحاء البلاد بشكل عفوي وهو إسقاط نظام الاستبداد وإقامة نظام يحفظ حقوقهم وكراماتهم. هل تحقق هذا الهدف؟ بالطبع لا، وهذا يعني أنَّ الثورة السورية لم تنتصر بعد.
بالمقابل تنهزم الثورة عندما يعود الوضع الذي ثار عليه الناس إلى سابق عهده قبل الثورة وتتوقف مظاهر التمرد على هذا الوضع، وفي التاريخ عدة أمثلة على ثورات فشلت كالثورة العمالية في باريس عام 1871 التي استمرت 72 يوماً وأسقطها جيش فرساي، والثورة المجرية عام 1956 التي أنهتها الدبابات الروسية. هل عاد الوضع في سورية إلى ما كان عليه قبل الثورة وانتهت مظاهر التمرد على النظام السابق؟ بالطبع لا وهذا يعني أنَّ الثورة السورية لم تنهزم.
توصيف الثورة السورية بأنها انتهت أو فشلت أو انهزمت يتجاهل أن التغيير الذي أطلقته لم يزل قائماً ولو أنه لم يصل بعد إلى غايته المنشودة. الثورة بوصفها حراكاً شعبياً هائلاً رافضاً للظلم لم تزل قائمة. يتجلى هذا الحراك المستمر بعشرات ألوف المقاتلين الذين يدافعون عن مناطقهم ويرفضون تسليمها إلى الأسد، ويتجلى بمئات الألوف من الحواضن الشعبية في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد والذين برغم ما يصيبهم من قتل ودمار على يد آلة الحرب الأسدية، وبرغم سخطهم وتبرمهم مما تبديه الكتائب من فرقة وممارسات، إلا إن أكثربتهم ما تزال صامدة في تلك المناطق رافضة لفكرة العودة إلى حكم الأسد، وسخطها على الكتائب يتحول في لحظة واحدة إلى تأييد لا حدود له في كل مرة توحد فيه تلك الكتائب كلمتها وتقوم بعمل عسكري تنال به من عصابة الأسد وحلفائها. يتجلى الحراك الشعبي الرافض لحكم الأسد في خمسة ملايين سوري آثروا البقاء في المخيمات ودول اللجوء على العودة إلى مناطق النظام والقتال في صفوفه، يتجلى أيضاً في مئات المجالس المحلية والمنظمات الأهلية التي تحاول بإمكانياتها المحدودة سد حاجات الناس وتشكيل بديل عن مؤسسات النظام في تعبير صريح عن إرادة الصمود ورفض فكرة العودة إلى حكم الأسد.
ولمن يقول: إنَّ الوضع أصبح أسوأ ممَّا كان عليه وهذا دليل فشل الثورة، نقول: ومن قال إنَّ الثورات تنقل الناس إلى وضع أفضل مباشرة دون مرحلة انتقال مؤلمة؟! هذا الوضع هو ثمن استمرار الثورة، وهو كلفة التغيير التي ارتضاها الثائرون حين رفعوا شعار (الموت ولا المذلة) الذي لم يفرضه عليهم أحد بل كان خيارهم الاستراتيجي بعدما عانوا من وحشية الأسد وأدركوا بفطرتهم أنَّ إيثار الموت على المذلة هو السبيل الوحيد للنجاة من العبودية للأسد والسير نحو حياة حرة كريمة إن لم يروها بأعينهم فسيهدونها لأبنائهم من بعدهم.
ولمن يقول: إنَّ الثورة أخرجت لنا ألف بشار وهذا دليل فشلها، نقول: الثورة مستمرة والطواغيت الجدد الذين ظهروا على ساحتها حالة مؤقتة تفرضها ظروف الصراع وما تفرزه من أمراء حرب، والسوريون الماضون في اقتلاع عصابة الأسد التي تستمد أسباب صمودها من آلة بطش وتحالفات إقليمية ودولية بنتها عبر عشرات السنين لن يعجزهم بعد أن يتخلصوا من الطاغية الأكبر هؤلاء الطواغيت الصغار الذين لا يملكون عشر معشار آلة بطش الأسد وتحالفاته.
كان الحكام يصنعون انقلاباً يقوم به عشرات الأشخاص فيحوّله أصحاب الأقلام المأجورة إلى حدث تاريخي عظيم ونقطة انعطاف في حياة الشعوب ويبدؤون منذ اليوم التالي للانقلاب استثماره في تغيير أفكار الناس وسلوكياتهم مجندين كل تقنيات الإقناع وأنواع الأدب والفنون. بهذه الطريقة تحول ما يُسمّى (الحركة التصحيحية) أو (الفاتح من سبتمبر) إلى منعطفات تاريخية ساهمت في صياغة أفكار الناس وسلوكياتهم لعقود من الزمن. إذا كان هذا ما يفعله أهل الباطل بباطلهم فلماذا نَئِدُ ثورتنا المُحقِّة بأيدينا ونقوم بنعيها وهي حية ترزق!؟
فلنسخّر أقلامنا لجعل الثورة السورية العظيمة التي قام بها مئات ألوف السوريين منعطفاً تاريخياً في حياتهم نحو آفاق الحرية والكرامة. ولنخصّب بأفكارنا وسلوكنا المعاني والقيم الإنسانية التي أطلقتها الثورة حتى يصل إشعاعُها إلى كل جوانب حياتنا. ولنراجع أخطاء ثورتنا وننتقدها ونجددها – ولن نكون ثواراً بحق إن لم نفعل – من داخلها دون أن نتخلى عنها أو نعلن موتها وهي لم تزل حية تؤرّق كل طغاة الأرض.