أنس إبراهيم
يعد ابن خلدون أول من استخدم تعبير فلسفة التاريخ في القرن الرابع عشر، حيث قصد بها البعد عن السرد وتسجيل الأحداث دون ترابط بينها، كما قصد بها التعليل للأحداث التاريخية.
إنَّ فلسفة التاريخ تعتبر أداة من الأدوات لتشكيل القاعدة المعرفية للقادة الميدانيين، واكتشاف القوانين العامة التي تقود حركة التاريخ، وبالتالي فهم الماضي واستشراف المستقبل.
وكذلك تعزز هذه الأداة التفكير التأملي لدى القادة من خلال النقاش والحوار، ممَّا يولد فيهم التفكير المنهجي في حلِّ المشاكل، وكذلك تعدُّ معرفتها عملية للبعث والإحياء النفسي للأمة.
فبعد الاستقراء والتحليل والاستقراء أثناء تتبع الأحداث التاريخية المتفرقة خلص إلى نظرية نشوء الدول واستقرارها، وتحللها وانهيارها، ملاحظاً الدورة الزمنية لها من الظفر إلى الانقراض، ومؤكداً على نظرية العصبية القائمة على رابطة الدم أو الدين أو أي رابطة اجتماعية أخرى في جميع مراحل الدولة.
لقد كان ابن خلدون ينظر في دراسته إلى الدولة من ناحية أطوارها، إلى أن جاء أرنولد توينبي الذي وسّع دائرة النظر ودرس الدولة في سياق أكبر، وهو سياق الحضارات.
رأى توينبي صاحب نظرية تفسير الحضاري أن نشوء الحضارات وبعثها متعدد الأسباب يقوم أساساً على قانون عمليات التحدي الجغرافية والبشرية التي تدفع للاستجابة والتحرك الخلاق سعياً للإقلاع الحضاري.
ونتيجة لنظرية توينبي وارتباطها بالعالمية تحول الفكر الغربي وتغيّرت مواقف الغرب تأثراً بنظريته، حيث وضع صورة حضارية وتاريخية للعالم، وبنى مواقفه عليها التي تمثلت في وثيقة كامبل. فما هي هذه الوثيقة؟
في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وتحديداً في سنة 1907 م كان هنري كامبل رئيس الوزارة البريطانية، وكان مولعاً بفلسفة التاريخ، وكانت بريطانيا ــــ ذات النجم الصاعد ـــ تمتد إمبراطوريتها من أدنى الأرض إلى أقصاها.
تأمل كامبل في فلسفة التاريخ وتساءل: إذا كان نجم بريطانيا سيغرب لا محالة بحسب نظريات فلسفة التاريخ، وإذا كانت بريطانيا واحدة من مكونات الحضارة الغربية المسيحية؛ فما الذي تستطيع أن تفعله لمدِّ أجل الحضارة الغربية وديمومة سيطرتها على العالم، بحيث يستمر الدور البريطاني بشكل أو بآخر في السيطرة على هذه البقاع في العالم.
وعندها دعا حزب المحافظين البريطاني كلا من فرنسا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا عام 1905 إلى عقد مؤتمر سري استمرت مناقشاته لمدة عامين، تم التوصل في نهايته عام 1907 إلى وثيقة سرية عرفت بوثيقة كامبل نسبة إليه، ولقد توصل المجتمعون إلى نتيجة مفادها ” إنَّ البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار؛ لأنَّه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والإفريقية، وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات، والإشكالية في هذا الشريان أنَّه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان” وإنَّ أبرز ما جاء في توصيات هذا المؤتمر الإبقاء على شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى أعلى مستوى من التقدم والازدهار.
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، لكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديداً عليها؛ لأنَّها لا تمتلك منظومة قيمية تعادي بها الغرب، وإنَّما تختلف معها في حساب المصالح، وهي ما أطلق عليها الحضارة الصفراء؛ كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها، والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديداً عليها وعلى تفوقها.
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديداً لتفوقها لامتلاكها منظومة قيمية تنافسها، (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والتي أطلق عليها تسمية الحضارة الخضراء، والواجب تجاه هذه الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية، ومحاربة أي توجه وحدوي فيها.
بناء على ما تقدم فإنَّه من المعلوم بالضرورة أنَّ موقعنا الجغرافي وعرقنا العربي فضلاً عن هويتنا الإسلامية تشكل خطراً مستقبلياً على إمكانية انحدار الحضارة الغربية وانحسارها كتناسب طردي وعكسي لصعود الحضارة الإسلامية من جديد، الأمر الذي حفز الغرب على اتخاذ خطوات إجرائية في تثبيت الجهل وتوسيع رقعة التخلف في معظم شرائح مجتمعاتنا.
وإذا كانت هذه الوثيقة قد مضى 110 سنوات على إقرارها وتنفيذها أدَّت إلى إحكام السيطرة الفعلية على كامل مقدراتنا ومواردنا المختلفة، فهي لا شك أصبح لديها من الخبرة والحنكة ما يجعلها تحكم القبضة أيضاً على مواردنا البشرية ذات الدماء النقية المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، ولا سيما إذا لم يملك قياديو الحركات الثورية المسلحة ومرؤوسو المؤسسات الثورية التي تريد أن تنهض إلى جانبها أيةَ فلسفة تحليلية لمجريات الأحداث التي تُصْنع لهم أو يصنعونها هم بأنفسهم بناء على استقراء الماضي وربطه بالحاضر.
وباختصار فإنَّ تاريخ دولنا العربية في هذا القرن والقرن الفائت يخطه عظماء المفكرين الغربيين، وكبراء ساستهم المخلصين لوطنيتهم ودينهم، وعليه فلا يظنّنَّ أحد الطامحين الجدد بالرياسة والسيادة من أبناء الحضارة الخضراء أن يغرد خارج السرب ما دام أكله وشرابه من حويصلات نسورهم.