قصي الهاشمي
إنَّ أخطر ما نعانيه اليوم هو مفهوم التجزئة أو التفرق سواء داخل العالم الإسلامي أم داخل الوطن العربي، وحتى داخل تيارات الصحوة الإسلامية، وداخل الفكر الثوري في الثورة السورية.
والتجزئة ليست متعلقة فيما هو مادي فقط، وإنَّما متعلقة بالوعي والإدراك، وفيما هو فكري، فالمجموعات الثورية التي نتجت عن واقع اجتماعي سيء مجزأ، بنت فيما بينها مجموعة من الأسلاك الفكرية الشائكة اتسمت بالجمود، وخلقت انتماء الفرد لما هو داخل تلك الحدود، حتى ظهرت مناطق نفوذ لكل مجموعة في المناطق المحررة، فتشكَّل واقعٌ جديد انتقل من الأسلاك و الحواجز الفكرية إلى أسلاك و حواجز واقعية حقيقية، وأصبحت كلُّ مجموعة محددة بذاتها تفصلها عن المجموعات الأخرى حواجز ودماء، أدى ذلك لظهور فجوات اقتصادية و اجتماعية و فكرية و سياسية بين أفراد لهم الهدف نفسه.
لم تكن المشكلة سببها العدو فقط، وإنَّما يشاركه فيها من ارتضى تلك الحدود والحواجز وتبناها لأعذار واهية وضعها ليقنع بها نفسه أولا.
هذه الحالة أنتجت واقعا مجزَّءاً ومشوها، وأنتجت أبناءً لهذا الواقع اقتصر تفكيرهم على تلك الصورة التي تحيط الأسلاك بجوانبها ولا يدرك ما سواها، حتى أنَّ محاولاتهم للتغيير كانت نابعة من ذلك الواقع الفاسد نفسه، فأنتجت حلولا فاسدة لم تغير من الوضع شيئا، وكل حلٍّ يسير على خريطة التجزئة نفسها، وتقسيم مناطق النفوذ والمحاصصة فيما هو عملي سيكون حلاً مشوهاً و إصلاحاً ناقصاً.
إنَّ أول نقطة يجب أن يعيها كلُّ من يحمل هم الثورة أنَّ تلك الحدود والأسلاك وَهمٌ غرس في أذهاننا ودافع عنه كلُّ المنتفعين من تلك الحالة، فليس المطلوب حلَّ جميع المجموعات والمكونات لإنشاء مكون جديد على أنقاضها أو دمجها في مكون واحد، بل يكفي مدّ جسور للتواصل بين جميع المكونات و الفاعلين في الثورة، و إيجاد أرضية مشتركة فيما هو فكري و اجتماعي و قضائي و سياسي تشترك فيها جميع المكونات، و هذا سيكون جزءا أصيلا من الإصلاح داخل الثورة.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة عندما بدأ بناء الأمة في المدينة المنورة، فلم يلغِ وجود القبائل من حوله، و إنَّما جمعهم على قيم مشتركة بايعوه عليها دونما تدخل في مصادر معيشتهم وأرزاقهم طالما أنَّها لا تمس أسس وقواعد الأمة والدين، وحتى مع أعدائه فإنَّه صلى الله عليه وسلم بنى جسورا للتفاهم ليأمن شرهم ابتداءً وليتفرغ للبناء بعدها، وبالتالي فإنَّ أية محاولة للإصلاح لا يمكن أن يُكتب لها النجاح ما لم تكن قادرة على تجاوز النظرة الأحادية القاصرة عن إدراك الحقائق الموضوعية للواقع بشكل دقيق و عميق، فالتجزئة لا يمكن اعتبارها ظاهرة سياسية محضة، بل ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية، وأي عملية إصلاح لا تجتث الظروف المسببة للتجزئة تفتقر إلى أهم مقومات النجاح وإن قُدِّر لها ذلك يوما فإنَّها تبقى قاصرة وجزئية لا تقدم حلاً شاملاً للواقع، بالإضافة إلى أنَّها سوف تظل مبنية على أساس غير متين.