سأبدأ المقالة بتعريفين واحد للثورة وآخر للسياسة لنستصحبهما ونحن نتحدّث عن طبيعة المعركة السياسيّة التي تخوضها الثورة مع النظام.
يعرّف عزمي بشارة الثورة في كتابه (في الثورة والقابلية للثورة) بأنها ” تحركٌ شعبي واسع خارج البنية الدستوريّة القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة. والثورة بهذا المعنى هي حركة تغييرٍ لشرعية سياسية قائمة لا تعترف بها وتستبدلها بشرعية جديدة”.
أما السياسة فسأختار من تعريفاتها المختلفة تعريف هانز مورجن ثاو (مفكرٌ سياسي أمريكي من أصلٍ ألماني وهو من روّاد القرن العشرين في مجال دراسة السياسة الدوليّة) والذي أجده منسجماً مع الممارسة السياسية التي تتطلّبها الثورة السورية “السياسة هي مجال السلطة والعمل السياسي هو الكفاح من أجل القوة” فالثورة السورية قامت لانتزاع السلطة من نظام عائلي طائفي أقلِّي يسعى إلى مصالحه الضيِّقة الخاصة، وإقامة سلطةٍ جديدة تمثل كلَّ السوريين وتعبّر عن مصالحهم وتسعى إلى تلبية احتياجاتهم.
هناك قاعدةٌ بديهية تقول: لاتخاذ أفضل قرار في أيِّ معركةٍ عسكرية كانت أم سياسية (بما في ذلك قرار الاستسلام!) لا بد من معرفة طبيعة العدو والإمكانيّات الذاتية، وإذا أسقطنا هذه القاعدة على معركتنا السياسية مع النظام فإنّنا في فهمنا لطبيعته نجد أنفسنا أمام نظامٍ طائفي يقوم على ركنين أساسيين:
– حقد طائفي يبرِّر لأفراده ارتكاب ما يحتاجون إليه من جرائم دون أي سقف أخلاقي.
– عبادة الفرد بوصف وجوده ضروري لوجود الطائفة أي أنَّ وجوده هو الذي يمنح الطائفة وجودها وهذا هو تعريف (الإله) الذي يموت في سبيله مئات ألوف الضحايا دون أن تسأل حاضنتهم يوماً: لماذا؟
نظامٌ من هذا النوع لا يتصور رجالاته أنفسهم بما يرتكبونه من جرائم إلا في القصور أو القبور ولا يمكن أن يقبلوا بتسوية سياسية تبدأ أو تنتهي بتنحية بشار لأن ذلك – وبسبب موقعه في نفوسهم كإله ضامنٍ لوجودهم – يعني انهيارهم معنوياً وبالتالي انهيار النظام ليس عند التنحي وإنما بمجرد إعلان القبول بهذه التسوية.
إنَّ جرائم النظام على مدار الساعة ومنذ اليوم الأول للثورة وطريقة تعاطيه مع المسار السياسي مذ وجد هذا المسار يؤكد طبيعته الإجرامية الاستئصاليّة وأنَّه يسعى إلى الحسم العسكري وسيقاتل من أجل هذا الحسم حتى آخر رجل.
هذا عن طبيعة النظام أمَّا عن إمكانياتِنا الذاتيّة في معركتنا السياسيّة معه فإنَّ الجرائم التي ارتكبها والموثقة من جهاتٍ دوليّة معترف بها تعطي من يمثل الثورة سياسياً المبرر القانوني والسياسي والأخلاقي ليتمسك برحيل بشار كشرط لنجاح أيِّ تسوية. صحيحٌ أن القراراتِ الدولية لا تنص على ذلك صراحة لكن تتيح لنا تفسيرها على هذا الأساس وما علينا إلا أن نتمسّك بهذا التفسير.
يتحدث البعض عن القبول بوجود بشار في المرحلة الانتقالية من باب الواقعية السياسية متجاهلين أن القبول به رئيساً شرعياً – ولو ليوم واحد – هو انتحارٌ سياسي للثورة وإعلان هزيمة لها، لأنه يعطيه الشرعية التي خرجت الثورة لإسقاطها ويجعل قمعه لها مبرراً بوصفه رئيساً شرعياً ويجعل الثائرين عليه مجرمين خارجين على الشرعية. أمَّا من يتحدث عن بقاء (بروتوكولي) فهي خديعة لا تنطلي إلا على من يعيش على كوكب آخر ولا يعرف عن نظام الأسد شيئاً فهذا النظام قائم على التبعيّة الشخصيّة للرئيس خارج أيِّ قانون أو بروتوكول، وفيما فعله علي عبد الله صالح في اليمن بعد ترك منصبه خير مثال على ما يمكن أن يفعله الأسد إذا ظلَّ في منصبه بصلاحياتٍ (بروتوكولية) في المرحلة الانتقاليّة.
من ناحية أخرى فإنَّ أيّ حلٍ يُبقي بشار ولو مرحلياً لا يمكن أن يقنع عشراتِ ألوف المقاتلين وحاضنتهم الشعبيّة بوقف القتال والمشاركة في الحل فهم يحتاجون بعد كل ما نالهم من قتل وتدمير إلى انتصار ولو كان معنوياً.
أخيراً إذا كان بقاء بشار في المرحلة الانتقالية يشكِّل (ضماناً) للطائفة كما يدعي البعض فما الذي سيتغير في نهايتها ليجعلهم في غنى عن بشار؟ وإذا كان توفير هذا الضمان ممكناً فلماذا لا يتم توفيره في بدايتها؟ اللهم إلّا إذا كانت هذه المرحلة انتقالاً من بشار إلى بشار، وفخاً لنحر الثورة ومنح الشرعية لبشار في انتخاباتٍ يشارك فيها، وهذا ما يؤكده رأس النظام في كل مقابلة صحفية وفي خطابه لأنصاره وفي تفسيره للحل السياسي على أنَّه تسليم السلاح وعفو عن المسلحين وعودة إلى حضن الوطن، ويؤكد هذا التوجه أيضاً طبيعة (المصالحات) التي يجريها النظام مع المناطق الثائرة.
لا يعني ما سبق أن نرفض أطروحة الحلِّ السياسي وإنَّما أن ننخرط فيها مدركين لطبيعة النظام الذي نتعامل معه موحدين أنفسنا وشعبنا على أنَّها معركةٌ طويلة متعددة الجبهات، في الجبهة السياسية غايتنا امتصاص الضغوط الإقليمية والدولية واستثمار فرص التهدئة ورفع الحصار ونقل التناقض من صفوفنا إلى صفوف النظام بإصرارنا على انتقال سياسي حقيقي لا مكان فيه للأسد وزمرته، وفي الجبهة العسكرية غايتنا الحفاظ على مناطقنا واستنزاف قوات النظام وحلفائه، وفي الجبهة المدنية غايتنا تقوية منظومة الحكم المحلي وسحب ذريعة انعدام البديل.
هي معركةٌ طويلة متعددة الجبهات وما يعرضه علينا المجتمع الدولي تحت عنوان (الحل السياسي) هو حتى اليوم ليس إلا استسلاماً كلفته أعلى بكثير من كلفة الصمود.