حين كنت طفلاً، كان لدينا جهاز تلفزيون صغير لونه أحمر، يعمل بشكل يدوي، وبالكاد يستقبل بث القناة الأولى.
كنت أضطر لمتابعة الإعلام السوري لأننا وقتها لم نصل لمرحلة التطور التكنولوجي المتمثلة (بالدش)، فقضيت طفولتي البائسة بين ثنايا ” افتح يا سمسم ” و ” التلفزيون والناس ” و ” أرضنا الخضراء “.
لكن البرنامج الذي أخذ حيزا متميزا من ذاكرتي الداخلية هو ” الأيدي الماهرة ” وكانت تشدني كلمات شارته التي تفيض حماسة ووطنية، الكلمات حفرت بذاكرتي كلعنة بابلية على رقم فخاري، ولم أستطع فهمها أو نسيانها “حرفيون حرفيون، من منبتنا بعثيون”.
فهمت حرفيون، لكن ماذا يعني من منبتنا بعثيون؟ هل السوري يولد بعثيا؟ وهل زمرة دمي هي O بعث، وكذلك باقي السوريين؟!
بقيت الكلمات برأسي عصية على الفهم حتى جاءت الثورة السورية التي يفترض أن تكون منذرة بأفول شمس البعث.
تقلبت الثورة بين الحلو والمر، وراوحت بين التقدم والتراجع، إلى أن جاء عصر الانحدار الثوري الذي بدأ بعد سقوط حلب وانحياز الثوار عنها، وما زال مستمراً للآن.
رأيت أبناء الدين الواحد والثورة الواحدة ورفقاء درب السلاح كيف يصفون بعضهم بعضا بعد حملات شيطنة وتخوين عظيمة، وينشقون عن بعضهم في تجاذبات لمسك زمام القوة، فقلت في نفسي أين رأيت هذا المشهد من قبل؟ هل يا ترى رأيته من قبل في انقلاب صلاح جديد وزمرته من البعثيين، على أمين حافظ البعثي أيضا؟
ثم جاءت حملات تكميم الأفواه واختطاف الناشطين والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني، وتسلط العسكرتارية المتأسلمة على كل شاردة وواردة في حياة الناس، لا أدري ِلمَ استحضرت أيضاً مشاهد ما سمي يوما الحرس القومي الذي أسسه البعث بعد انقلاب آذار، وهو يداهم مقرات الجرائد السورية الحرة، ويعتقل كل مخالف له من اليمين أو اليسار، ويقحم نفسه في أدق تفاصيل الناس، ليصنع هالة من الإجرام، يتشرنق بداخلها حتى تحميه من أي تغيير.
حاولت أن أستبق الأحداث معتمدا على التراث البعثي العتيق، الذي ينتهجه المتأسلمون، فوجدت أنَّ البعثيين بعد أن أغلقوا وصادروا كل الحريات، واحتلوا أدق تفاصيل الناس، أحبوا أن يكافئوا ضحاياهم بجعلهم جزءا من المنظومة البعثية لتنهل منها القيم الراشدة، فأنشؤوا الجبهة الوطنية التقدمية التي تجمع كل القوى السياسية الوطنية (والتي هي حزب البعث باسم آخر)، وأقاموا اتحادات عمال وفلاحين، ونقابات مهنية، ومنظمات تعنى بالأطفال والناشئة والشباب، كالطلائع وشبيبة الثورة، وفعلا مشى المتأسلمون ( البعثيون الجدد ) على الخطى نفسها حذو القذة بالقذة، فما حاربوا لأجله إخوانهم وكفروهم وصحونوهم عليه، وجعلوه حجة للهيمنة وبسط النفوذ، أصبح اليوم بقدرة قادر من أساسيات الدين، فصرنا نسمع دعوات الإدارة المدنية والعياذ بالله، ورفع علم الثورة، عفوا أقصد الانتداب الفرنسي، ولقاءات مع حكومة الائتلاف المرتدة، معذرة أقصد المؤمنة.
وبعد هذا كله فهمت أخيرا معنى ” من منبتنا بعثيون “، فما زالت البعثية تجري في دمانا، وما زالت جينات البعث تطغى صفاتها علينا، وحتى يوم أردنا أن نتأسلم، أسلمنا البعث معنا، فركبَّنا لضابط التوجيه السياسي ذقنا وألبسناه أفغانية وحملناه سواكا وسميناه شرعيا، وغيرنا اسم القيادة القومية إلى المجلس الشرعي، والقيادة القطرية صارت مجلس الشورى، وتحول الرفيق إلى أخ، والتقرير إلى دراسة، وتدمر إلى العقاب، والفرع إلى المقر، حتى عدوتنا الإمبريالية نالت نصيبها من الأسلمة حيث أصبح اسمها الجديد الصليبية.
لكن شيئا واحدا أبقيناه على حاله، وهو التصدي والسحق لـ ” الإخوان المسلمين ” فهؤلاء ما زالوا عندنا عصابة مأجورة، وأداة للصليبية (الإمبريالية سابقا).