عرَّفت الأمم المتحدة مصطلح الحوكمة في تقريرها السنوي عن التنمية البشرية في سنة 2002 بأنها التطبيق الفعلي للنشاط الاقتصادي والسياسي والإداري من أجل إدارة أعمال الدولة على كافة المستويات، وقد انبثق عن هذا المصطلح مفاهيم الحوكمة الاقتصادية والسياسية والقانونية وغيرها مبنية على مجموعة من القواعد والأسس التي تحكم وتنظم الحقوق والمسؤوليات ضمن إطار التنوع والمنافسة في أي هيكلية مؤسساتية.
في مناطقنا المحررة تدور رحى صراع الحوكمة بين أطراف مدنية وأخرى عسكرية، آخر فصولها استيلاء ما يعرف بهيئة تحرير الشام على كافة الإدارات المدنية التابعة لمجلس مدينة إدلب المنتخب شعبياً، ونصبت مكانها مؤسسة الإدارة العامة لتكون الإدارة الأداة والقناع في يد الهيئة التي ستلقى فشلاً ذريعاً في الوسط الاجتماعي للأسباب التالية:
سياسيا:
إنَّ الفلسفات الكامنة من خلف هذه الانطلاقة تتعارض تماما مع ماهية أهم مبادئ الثورة والتي تهدف إلى التحرر من فكرة الاستبداد السياسي القمعي، والانفتاح على إشراك كافة فئات المجتمع بمختلف تياراته وألوانه في إدارة الحكم ومزاولة السلطة ومكافحة تيارات السلطة الوصية على اتخاذ القرارات المؤثرة على المجتمع عبر التفرد في تعين الأشخاص ومنح الصلاحيات واتباع سياسة الإدارة بالدمى.
اقتصاديا:
يتأثر العنصر الاقتصادي بالتفاعل الديناميكي المعقد مع النظام الفكري والسياسي للسلطة التأسيسية الشرعية التي تضم كل التيارات، وبتالي فإنَّ هذا التفاعل معدوم في حالة الاستبداد الشمولية مع هذه السلطة كون هذا القطاع محكوم بمبادئ جهة واحدة بغض النظر عن فلسفتها (رأسمالية – اشتراكية -إسلامية…)
إنَّ المقاربة بين الإيدلوجية السياسية والحركة الاقتصادية هي عبارة عن فعل ورد فعل، وهو لمسناه من تغيرات على صعيد الحركة التجارية للمنفذ البري الوحيد مع الجانب التركي.
كما أنَّ التفرد في وضع اليد على الموارد والمرافق العامة وإسباغ الملكية الفصائلية العسكرية عليها سينعكس سلباً على مدى قدرة النهوض والنمو وانخفاض مستوى المعيشة في المناطق المحررة
وتبقى المنح المالية والمساعدات الإنسانية إحدى أهم موارد الدخل في ظل اقتصاد الحرب الذي يعيشه الفرد في مناطقنا، وهو من سيتضرر بشكل أو بآخر من توقف عمل هذه المؤسسات لعدم موائمة بيئة العمل في الداخل المحرر مع معايير المجتمع الدولي لأسباب سياسية وعسكرية ستفرضها خطوة الحوكمة السوداء.
تعليمياً وخدمياً:
إنَّ احتكار سياسة التعليم والخدمات يختلف عن تنظيمها وتطويرها، فإخضاع هذين المجالين لإدارة جهة واحدة سيؤدي إلى إقصاء دور الكفاءات في عملية اتخاذ القرار وتطوير المناهج وتعزيز سبل تطوير الخدمات، لأننا سنعود النهج البيروقراطي المتبع في نظام الأسد، لكن بأشكال ومسميات مختلفة من خلال تنظيمات هرمية وشبكية تضيق الطريق على موارد هذه القطاعات من عنق زجاجة الإدارة العامة للخدمات (إدارة المنظمات) لتحقيق مأرب فئوية وفصائلية.
تبقى عملية التنظيم والإدارة هدف منشود لكل مجتمع، لكن من خلال مبادئ المسؤولية والعدالة والتشاركية المبنية على قاعدة تعزيز المصلحة العامة بناءً على مرجعية المساءلة والمحاسبة وليس التفرد والإقصاء والتستر خلف أقنعة المواطنة والمدنية.