للكون قوانين لا يستطيع أحد تجاوزها، منها أنَّ الحكم سواء كان عادلاً أم جائراً يحتاج إلى أعمدة دعمٍ يقوم عليها.
أقام حافظ حكمَه على أعمدة من داخل سورية وخارجها. تمثلت أعمدة الداخل في طائفة الأسد وحزب البعث والجيش والأجهزة الأمنية وفي أكثرية صدّقت وعوده بأنه سيطبق اشتراكية تعطي العمال والفلاحين حقوقهم وتلغي التفاوت الطبقي وتقلل الفوارق بين أهل الريف وأهل المدينة. وتمثلت أعمدة الخارج في دعم دولتين عظميتين هما الاتحاد السوفيتي الذي كان يراه حليفاً في وجه الولايات المتحدة، والولايات المتحدة التي كانت تراه صمام أمان يمنع وصول الإسلاميين إلى الحكم وتهديد إسرائيل، وفي دعم دول الخليج التي كان يبتزها بحجة (المقاومة) أو كانت تدفع شره بسبب قدرته الشيطانية على التخريب وصناعة الفوضى.
عندما اندلعت الثورة السورية في آذار 2011 بدأت هذه الأعمدة بالاهتزاز والانهيار تباعاً. داخلياً ثار عليه معظم أهل الريف وأهل المحافظات الذين أهمل مناطقهم وفشل في تلبية حاجاتهم المادية والمعنوية كالإحساس بالكرامة مثلاً. وتحول هؤلاء الذين كانوا خزاناً بشرياً يمد حزب البعث والجيش والشرطة وأجهزة الأمن بالرجال إلى أعداء له عندما فتح النار على المتظاهرين السلميين وقتل الألوف منهم، وذلك لا يعني أنَّ الثورة اقتصرت على الأرياف والمحافظات فقط، ففي مدينة دمشق وحدها يوجد عشرة آلاف معتقل.
وبسبب الانشقاقات في جيش النظام عندما سلطه على الشعب الأعزل والخسائر البشرية الفادحة في صفوف قواته لمّا تحولت الثورة السلمية إلى مقاومة شعبية مسلحة تهاوت أعمدة الدعم الداخلية للنظام، وأصبح في آذار 2013 على وشك الانهيار لولا تدخل حزب الله والميليشات الطائفية التي استجلبتها إيران، لكن التهالك الذي بلغه النظام منع هذا الدعم الميداني الكبير من إنقاذه، فوصل إلى حافة الانهيار مرة أخرى في آب 2015 لولا التدخل الروسي المباشر الذي حمى النظام من السقوط ورجّح الكفة إلى جانبه مرحلياً، لكنه فشل في بعث الحياة في جسده المحتضر وإخراجه من غرفة الإنعاش، تلك الغرفة التي لن تتحمل روسيا الكلفة الباهظة لإبقائه فيها إلى أمد طويل.
أما خارجياً فبعد أن فقد النظام قدرته على إحكام قبضته على الشعب لم يعد صمامَ الأمان الذي يحمي إسرائيل، كما أنَّ النظام وضع نفسه في تناقض وجودي مع دول الخليج عندما سلّم البلد للإيرانيين. صحيح أنَّ بعض هذه الدول تعرقل سقوطه قبل أن تهيئ بديلاً ينتمي إلى مشروع الثورة المضادة الذي تريد من خلاله إجهاض التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي، لكن دول الخليج لن تساهم في تثبيت الأسد كذراع إيراني في المنطقة، ولن تتحمل الكلفة السياسية لدعم بقائه بعد الفظائع التي ارتكبها.
إذاَ فقدَ النظام معظم أعمدة الدعم التي كان يقوم عليها، وهو اليوم مستمر بقوة الدفع المستمدة من التحالفات وتقاطعات المصالح التي نسجها والده طوال ثلاثين عاماً، وهي قوة تتلاشى تدريجياً وستنتهي عندما يصبح بقاء الأسد عالة على من كانوا يستفيدون منه.
استخدم النظام وحلفاؤه (الظاهرين والمخفيين) كل أوراقهم تقريباً، وهم اليوم عندما يتحدثون عن بقاء الأسد إنما يرمون ورقتهم الأخيرة متوهمين أنَّ السوريين الذين ثاروا على النظام عندما يسمعون أنَّ الدول المعنية بالملف السوري تريد بقاء الأسد بعد كل ما ارتكبه من جرائم سيرفعون الراية البيضاء قائلين: نظام لديه كل هذا الدعم الدولي يستحيل أن يسقط، فيتخلون عن مطلبهم ويعودون إلى بيت الطاعة منكسرين.
لقد وصل نظام الأسد إلى نقطة اللاعودة في قطيعته مع السوريين، وهو، وإن حقق انتصارا عسكرياً هنا أو هناك، لن يستطيع أن يحوّل انتصاراته إلى مكسب سياسي؛ لأنَّ السوريين الذين لم يرضخوا لحكمه إلا بسبب الخوف، لم يترك بشار لعشرة ملايين منهم -على الأقل -ما يخافون عليه!